عبد العزيز بدر عبد الله القطان*
في كل عصرٍ من العصور، تُولد شخصيات قادرة على إحداث انعطافة حقيقية في مسار الفكر الإنساني، وقلّما نجد مفكراً اجتمع على تقديره القانونيون، والسياسيون، والمؤرخون، كما اجتمعوا على مونتسكيو، ولعل اختيار شخصية مونتسكيو موضوعاً لأكتب عنه لا ينبع فقط من شهرته التاريخية أو مكانته في الفكر الغربي، بل من إيماني العميق بأنه أحد أولئك الذين وضعوا البذور الأولى لمفهوم "العدالة الدستورية" التي نحيا اليوم على ثمارها، وإن كل من ينتمي إلى حقل القانون، سواء كان باحثاً أو قاضياً أو مشرّعاً، يجد في فكر مونتسكيو مصدر إلهام لا ينضب، لأنه لم يكن ينظر إلى القانون كوسيلة ضبط، بل كفنّ لتحقيق التوازن بين السلطة والحرية، بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة والمجتمع.
ومونتسكيو ليس مجرد اسم في كتاب، بل هو مدرسة فكرية متكاملة، تُعيد للذهن دائماً سؤالاً جوهرياً وهو كيف نمنع السلطة من أن تُفسد من يمسك بها؟ في عالمنا اليوم، حيث تتعدد أشكال الانتهاك باسم القانون، وتكثر محاولات تسييس القضاء، يُصبح الرجوع إلى فكر مونتسكيو ضرورة فكرية وأخلاقية لكل قانوني يبحث عن العدالة الحقيقية، لا الشكلية.
ويُعد شارل لوي دي سيكوندا، المعروف باسم مونتسكيو، واحداً من أبرز المفكرين في التاريخ الفرنسي الحديث، بل وأحد أركان التنوير الأوروبي الذين مهدوا الطريق لتطور الفكر السياسي والقانوني في العالم بأسره، وُلد مونتسكيو في الثامن عشر من يناير عام 1689 في قصر "لا بريدي" جنوب غرب فرنسا، في أسرة أرستقراطية تنتمي إلى طبقة النبلاء، حاز على تعليم دقيق وشامل منذ صغره، حيث درس القانون في جامعة بوردو، ثم ورث منصب قاضي في البرلمان المحلي، وهو منصب قضائي مرموق مكّنه من التفاعل المباشر مع القوانين والمؤسسات القضائية والسياسية في فرنسا، ما زرع فيه شغفاً مبكراً لفهم القانون، وتحليله، ومن ثم مساءلته ونقده.
كما انتمى مونتسكيو فكرياً إلى مدرسة التنوير، تلك المدرسة التي قامت على تحطيم الأساطير السياسية والدينية والفكرية في أوروبا، ودعت إلى استخدام العقل والبحث العلمي كأساس لفهم العالم وتطوير المجتمع، ومع ذلك، تميز مونتسكيو عن غيره من مفكري التنوير مثل فولتير وروسو، بأنه لم يكن مجرد فيلسوف، بل كان مفكراً ذا طابع منهجي واقعي، مهتمًا بالأنظمة السياسية كما هي، لا كما يجب أن تكون فقط، لقد جمع في فكره بين الفلسفة والقانون والتاريخ والاجتماع، وهو ما منح أعماله طابعاً علمياً وتحليلياً رصيناً، جعله حتى يومنا هذا أحد المراجع الأساسية في دراسات القانون الدستوري والنظرية السياسية.
أما العمل الذي خلد اسمه في التاريخ هو كتابه الشهير "روح القوانين" (L’Esprit des lois)، الذي نُشر عام 1748 بعد أكثر من عشرين عامًا من البحث والكتابة، وقد صدر هذا الكتاب في زمن كانت فيه الملكية المطلقة هي النظام السائد في فرنسا، وكانت فيه السلطة متركزة في يد واحدة، دون أي ضوابط أو مساءلة، ولهذا فإن الطرح الذي قدمه مونتسكيو جاء ثورياً بكل معنى الكلمة، إذ قلب النظرة إلى السلطة رأساً على عقب، وفتح الباب لفهم جديد لمبدأ الحكم.
وفي كتاب "روح القوانين"، قدم مونتسكيو نظريته الأشهر: فصل السلطات. رأى أن أساس الحرية السياسية يكمن في توزيع السلطة بين ثلاث سلطات منفصلة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، بالنسبة له، فإن تركيز السلطة بيد واحدة يؤدي حتماً إلى الاستبداد، بينما التوزيع المتوازن لهذه السلطات يُنتج نظاماً عادلاً يحمي الحقوق الفردية ويمنع الطغيان، وقد استند في طرحه هذا إلى دراسة مقارنة بين أنظمة الحكم في أوروبا، وخصوصاً التجربة الدستورية الإنكليزية التي اعتبرها نموذجاً يُحتذى، حيث كانت الملكية مقيدة بالبرلمان، والقضاء يتمتع بشيء من الاستقلال.
لكن مونتسكيو لم يكتفِ بوضع نموذج مثالي للفصل بين السلطات، بل وسّع رؤيته لتشمل فهم القوانين باعتبارها نتاجاً لمجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية والجغرافية، كما رفض فكرة أن القانون يمكن أن يكون واحداً لكل الشعوب، وقال إن لكل أمة روحها الخاصة التي تنبثق منها قوانينها، وهي روح تتأثر بالمناخ، والتقاليد، والمعتقدات، والاقتصاد، هذه الفكرة المعروفة باسم "نسبية القوانين" كانت بدورها ثورية، لأنها فتحت الطريق أمام نشوء علم الاجتماع القانوني، وربطت القانون بالحياة اليومية والهوية الجمعية للشعوب، لا بمجرد نصوص مجردة أو إرادات حاكمة.
وقد تميّز أسلوب مونتسكيو في الكتابة بالجمع بين العمق والوضوح، وبين التحليل الواقعي والنبرة الأخلاقية الرصينة، حيث لم يكن يكتب لمجرد التنظير، بل لأنه كان يرى في الفكر وسيلة لإصلاح الحياة السياسية، لقد دعا إلى الحرية ولكن ضمن نظام، إلى العدالة ولكن ضمن مؤسسات، وكان دائماً حذراً من الفوضى التي قد تنشأ إن أُخذت الحرية كمفهوم مطلق دون أن تُحاط بضوابط قانونية ومؤسسية.
أما سيرة مونتسكيو الشخصية لا تقل ثراءً عن فكره، فقد كان عضواً في أكاديمية العلوم في بوردو، وتنقل بين إيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وإنكلترا، واطّلع على نظمها السياسية المختلفة، ودوّن ملاحظاته بعناية، وهو ما أعطى لأعماله طابعاً مقارناً لم يكن شائعاً في زمانه، حيث كان يتمتع بحس نقدي لاذع، عبّر عنه في كتابه السابق "رسائل فارسية"، وهو عمل ساخر كتبه على شكل مراسلات بين مسافرين فارسيين يرويان ما يشاهدانه في المجتمع الفرنسي، فكان بمثابة نقد مبطن للمجتمع الفرنسي وطبقاته ومؤسساته.
توفي مونتسكيو في العاشر من فبراير عام 1755، عن عمر ناهز 66 عاماً، ودفن في كنيسة سانت سولبيس في باريس، لكنه لم يُدفن فقط في التراب، بل خُلدت أفكاره في دساتير العالم، خاصة في دستور الولايات المتحدة الأميركية، وفي الدستور الفرنسي لاحقاً بعد الثورة، وقد اعتبره كبار رجال القانون والسياسة حجر الأساس في بناء النظم الليبرالية الحديثة، وواحداً من أول من نظّروا لدولة القانون، التي تقوم على الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون فوق الجميع.
ومن خلال إرثه الضخم، أثبت مونتسكيو أن القانون ليس مجرد أدوات لتنظيم المجتمع، بل هو انعكاس عميق للعقل البشري وتجلياته الثقافية والسياسية.، كما لم يكن يرى في الحاكم المصلح ضماناً للعدالة، بل كان يؤمن بأن الضمان الحقيقي يكمن في بناء مؤسسات قوية، ومقيدة، وخاضعة للمساءلة، هذه الرؤية لا تزال تُشكل مرجعاً حياً للمجتمعات التي تسعى نحو الديمقراطية وسيادة القانون، وهي تزداد أهمية في ظل ما نراه اليوم من محاولات متكررة للالتفاف على السلطة القضائية، أو احتكار القرار، أو سنّ قوانين تخدم مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة.
بالإضافة إلى ذلك، كان مونتسكيو مفكراً قانونياً وسياسياً بامتياز، لكنه أيضاً كان إنساناً ينظر إلى العدالة كقيمة إنسانية عليا، لا كمجرد صيغة قانونية، ولذا فإن قراءة أعماله ليست فقط قراءة في الماضي، بل هي استشراف للمستقبل، ودعوة دائمة لإعادة التفكير في معنى الحكم والسلطة والقانون والحرية.
بالتالي، إن الحديث عن مونتسكيو ليس استدعاءً لفكرٍ مضى، بل هو استحضار لحكمة تتجاوز حدود الزمن والمكان، ففي زمن يتسارع فيه انحراف السلطة عن مقاصدها، وتُستغل فيه القوانين لتقنين الظلم بدلاً من مكافحته، تزداد الحاجة للعودة إلى مفكرين مثل مونتسكيو، ممن جعلوا من القانون علماً للحرية، لا سيفاً بيد الطغيان، لقد أدرك هذا الرجل، في قلب القرن الثامن عشر، أن الإنسان لا يحتاج فقط إلى العدالة، بل إلى نظام يمنع الظلم قبل أن يقع، ويُقيد السلطة قبل أن تتحول إلى غول يلتهم الحقوق والحريات، هذه الرؤية، على بساطتها الظاهرية، كانت نتيجة تأمل عميق في تجارب التاريخ، ووعي دقيق بتعقيدات النفس البشرية، وإيمان لا يتزعزع بأن القانون يجب أن يُبنى على فهم المجتمع، لا على رغبة الحاكم.
إن الإرث الذي تركه مونتسكيو لا يُقاس بعدد الصفحات التي كتبها، بل بعدد الدساتير التي حملت بصمته، والأنظمة القضائية التي استلهمت منطقه، والعقول التي وُلد فيها الوعي الدستوري بفضله، لأنه لم يكن مصلحاً سياسياً بالمعنى التقليدي، بل كان مصلحاً عميقاً للفكر السياسي نفسه، إذ غيّر الطريقة التي ننظر بها إلى السلطة، من كونها حقاً مكتسباً إلى كونها مسؤولية مقيدة. وهو ما جعل نظريته عن فصل السلطات ليست مجرد إجراء مؤسسي، بل فلسفة متكاملة ترسخ أن لا حرية دون توازن، ولا عدالة دون رقابة، ولا دولة دون قانون.
وما أحوجنا، نحن القانونيين، في هذا العصر المتشظي سياسياً وأخلاقياً، إلى أن نعيد قراءة مونتسكيو لا كمجرد مفكر تنويري غربي، بل كصوت عالمي وعقل إنساني سابق لعصره، علّمنا أن الوقاية من الاستبداد لا تكون بالشعارات، بل ببناء الأنظمة المحكمة، وأن الدفاع عن العدالة لا يتحقق بالعاطفة وحدها، بل بالعلم والفكر والضمير الحي.
لقد وضع مونتسكيو بين أيدينا مفاتيح لا تقدّر بثمن، كيف نُهندس السلطة فلا تنفلت، كيف نحمي الحقوق فلا تُنهب، كيف نُؤسس أنظمة لا تُعطي للحاكم صفة الإله، ولا تُجرّد المواطن من كرامته، ومن هنا، فإن دراسته ليست ترفاً أكاديمياً، بل واجب فكري وأخلاقي لكل من يريد أن يجعل من القانون رسالة، لا مهنة فقط، ومن العدالة مساراً، لا مجرد شعار.
وهكذا، فإننا كلما أعدنا النظر في واقعنا القانوني والسياسي، وكلما اشتدت الحاجة لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة وأفرادها، نجد في فكر مونتسكيو نقطة انطلاق، ومرآة صافية، وجرس إنذار، يُذكرنا بأن الحرية لا تُمنح، بل تُبنى، وأن القانون إن لم يُصغ بضمير، سيتحول إلى أداة قهر بأيدٍ باردة، وفي زمن الصراعات الدستورية والنزاعات السلطوية، يُصبح مونتسكيو رفيق درب لكل باحث عن التوازن، ولكل مؤمن بأن الدولة العادلة تبدأ من عقل حر وقلب صادق يؤمن بأن الكلمة المكتوبة في نص القانون يجب أن تكون انعكاساً لقيمة الإنسان، لا لرغبة السلطان.
*كاتب ومفكر – الكويت.