عبد العزيز بدر عبد الله القطان*
في المشهد القانوني الفرنسي، الذي طالما تأرجح بين المدرسة الوضعية المتمسكة بصرامة النص، والمدرسة الطبيعية التي تسبغ على القانون بعداً أخلاقيًا متعاليًا، برز صوت ثالث يميل إلى التفكيك والتأمل النقدي: بول أميه (Paul Amselek) وُلد عام 1925، وتشكّل فكره في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت فرنسا، كغيرها من دول أوروبا، تعيد بناء مؤسساتها على أنقاض العنف والسلطوية. في هذا السياق، تبنّى أميه ما يمكن تسميته بـ "المدرسة التحليلية الفلسفية للقانون"، وهي مدرسة تتقاطع مع الفقه الأنجلوسكسوني – خاصة مع هارت ودوركين – لكنها تنطلق من الحس الفلسفي الفرنسي المجبول بالشك، والتفكيك، والحساسية تجاه السلطة.
فلسفة بول أميه لا تقف عند حدود القانون كأداة تنظيم، بل تنظر إليه بوصفه خطابًا رمزيًا يحمل في طياته بنية القوة، وتصورات المجتمع عن نفسه، وحدود الممكن والممنوع. ولذلك، فإن ما يشغل أميه ليس فقط "ما يقوله القانون"، بل "كيف يُقال"، و"لماذا يُقال بهذه الطريقة بالذات". إنه معني بتحليل البنية اللغوية للقاعدة القانونية، تفكيك المفاهيم المركزية كالإلزام، والسيادة، والعدالة، والسؤال عما إذا كانت تلك المفاهيم تعكس بالضرورة واقعًا موضوعيًا، أم أنها تنتمي إلى عالم الخطاب والإنتاج الرمزي الذي تصنعه الدولة والسلطة والمجتمع.
لقد خالف أميه الطابع التأملي الميتافيزيقي الذي طبع الفلسفة القانونية الفرنسية لعقود، ورفض أيضًا الانغلاق التقني الجاف للوضعية القانونية. فاختار طريقًا ثالثًا يتسم بالصرامة المفهومية، والتحليل النقدي للغة القانونية، والانفتاح على العلوم الاجتماعية والمنطق. لم يكن غرضه من ذلك نقض القانون أو تفريغه من محتواه، بل إعادة تأسيسه على أرضية فكرية أكثر وضوحًا وصدقًا مع ذاته. لذلك، اهتم في كتاباته بتحرير المفاهيم من اللبس، وبيان ما إذا كانت القواعد القانونية تُستمد من منطق داخلي خالص، أم أنها استجابات لصراعات اجتماعية تتم عقلنتها لاحقًا بلغة القانون.
ولعل من أبرز المسائل التي انشغل بها أميه هي طبيعة "العدالة" في الخطاب القانوني. فهو لم يتعامل معها كمبدأ مطلق ينبغي السعي لتحقيقه كيفما كان، بل كمفهوم متغير، مائع، يتعرض للتوظيف السياسي والأخلاقي والديني والاجتماعي. فالعدالة، في نظره، لا توجد في الفراغ، بل تتشكل وفقًا لِما يعتبره المجتمع "مقبولًا" أو "محمولًا بالقيمة"، وهو ما يجعلها سلاحًا خطيرًا إن استُخدم في غير مكانه. لذلك، رفض أن يكون القانون مجرد وسيلة لتحقيق العدالة بمعناها الأخلاقي، بل دعا إلى التفريق الصارم بين ما هو قانوني وما هو عادل، معتبرًا أن الخلط بينهما يقود إلى تبرير سلطات استثنائية، وقوانين تعسفية، بذريعة "تحقيق العدالة".
وقد امتد هذا التحليل إلى موقفه من السلطة القضائية، حيث رأى أن القضاء لا يمكن اعتباره "فم القانون" المحايد كما يُصوّر تقليديًا، بل هو فاعل تأويلي يُسهم في إنتاج المعنى القانوني، ويعيد تشكيل القاعدة في ضوء الوقائع الاجتماعية المتغيرة. ولهذا، فإن "الشرعية" في نظر أميه لا تنبع فقط من وجود النص، بل من الطريقة التي يُفهم بها النص، وتُمارس بها السلطة، وتُقبل بها القواعد داخل المجتمع. فكل قانون يفترض خلفه تسويغًا ثقافيًا واجتماعيًا، وليس مجرد شرعية إجرائية شكلية.
هذا المنظور يجعل فكر أميه حاضرًا بقوة في العالم القانوني اليوم. ففي زمن تتزايد فيه الأسئلة حول شرعية القوانين المرتبطة بالطوارئ، والرقابة، والحرية، وتوسّع سلطات الدولة باسم الأمن، تكتسب تحليلاته أبعادًا جديدة. نحن نعيش في لحظة تشهد فيها السلطة السياسية نزوعًا متصاعدًا إلى السيطرة من خلال القانون، لا ضده. لم تعد الدولة تنتهك الحقوق بالقوة، بل "تنظّم" هذه الحقوق بطريقة تجعلها قابلة للتقييد والتأجيل والإخضاع. وهنا تبرز أهمية مشروع بول أميه: ليس فقط لفهم القانون، بل لفهم كيف يمكن أن يُستخدم القانون لتأبيد اللاعدالة تحت غطاء الشرعية.
عندما نتأمل في أفكار بول أميه ونحاول إسقاطها على القانون في الزمن الراهن، نجد أنفسنا أمام تشخيص دقيق كان أميه قد نبّه إليه مبكرًا: أن القانون الحديث بدأ يتحول من منظومة رمزية تُجسّد توازنًا دقيقًا بين السلطة والمجتمع، إلى أداة تقنية محضة، تُدار غالبًا بعقل بيروقراطي جامد، أو تُختزل إلى مسألة "كفاءة إدارية" بعيدًا عن أي نقاش فلسفي أو أخلاقي. لقد حذّر أميه من لحظة تصبح فيها الشرعية مساوية تمامًا للامتثال الإجرائي، ويغيب عنها السؤال الجوهري: "هل ما نقنّنه ونفرضه عادل من حيث المعنى؟" اليوم، تتكاثر النصوص القانونية وتتضخم أجهزة التشريع، لكن الفكر القانوني يتراجع إلى خلفية المشهد، ويُختزل دور المفكر القانوني في مراجعة الصياغات، لا في مساءلة الخيارات الكبرى. بل إنّ القوانين تُنتج أحيانًا تحت ضغط الرأي العام اللحظي، أو بناءً على حسابات اقتصادية وأمنية عاجلة، دون أن تترك مجالًا لوقفة تأمل فلسفي حول المعايير والمفاهيم والمآلات.
ولعلّ أحد تجليات أزمة القانون المعاصر هو الإفراط في سنّ قوانين استثنائية، وتطبيع حالات الطوارئ، وشرعنة المراقبة الواسعة، وتقييد الحريات باسم المصلحة العامة أو الأمن القومي، وهي بالضبط السياقات التي كان أميه يعتقد أنها تتطلب أقصى درجات الحذر النقدي. فهو لم يرَ في القانون ضمانة بحد ذاته، بل مشروعًا إنسانيًا هشًا، يحتاج إلى حماية دائمة من التوظيف السياسي والانزلاق نحو السلطوية. لم يكن يعارض الدولة أو السلطة، بل كان يصر على أن جوهر القانون ليس فقط في تنظيم السلطة، بل في تقييدها وإضفاء المعنى القيمي على وجودها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا لم نعد نجد مفكرين قانونيين من طراز بول أميه ورفاق جيله أو من سبقهم؟ الإجابة تكمن في تحوّل السياق الثقافي والتعليمي والمؤسسي الذي كان ينتج هذا النوع من الفلاسفة القانونيين. أميه نشأ في زمن كانت فيه الفلسفة القانونية جزءًا من تكوين القاضي والمشرّع، وكان النقاش حول المفاهيم الكبرى (كالعدالة، والشرعية، والسلطة) يحظى باحترام أكاديمي وسياسي. أما اليوم، فقد طغى التخصص الضيق، وأُقصيت الفلسفة إلى هوامش المناهج، وتحوّل القانون إلى صناعة خدماتية في كثير من الأحيان، تُطلب فيها السرعة والامتثال، لا التأمل والنقد. لقد تغيّر أيضًا دور الجامعة، من فضاء حرّ لإنتاج الأفكار، إلى مؤسسة تخضع لضغوط التقييم والتمويل والتصنيف. ومَن يفكر كما فكّر أميه، قد يُنظر إليه اليوم كمنشغل بـ"ترف نظري" لا يواكب "تحديات العصر"، رغم أن هذه التحديات لا يمكن مواجهتها إلا بالفكر المتأني، لا بالاستجابة السطحية.
ثم إنَّ السلطة اليوم لم تعد تتعامل مع الفكر القانوني باعتباره تهديدًا أو شريكًا، بل تُحيّده عبر الإغراق في التعقيد، والهيمنة على الخطاب القانوني نفسه. إننا نعيش عصرًا تتكلم فيه السلطة بلغة القانون، بل تُتقنها جيدًا، لكنها تمارسها بدون روح، أو كما يقول أميه: "القانون الذي يفقد حسّه الرمزي يتحوّل إلى تقنية طاغية، لا تعرف سوى فرض الأمر الواقع".
لهذا كله، تبقى الحاجة إلى فكر من نوع بول أميه حاجة ملحّة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ليس فقط لإعادة الاعتبار للفلسفة القانونية، بل لإحياء الوعي النقدي داخل بنية القانون ذاته، حتى لا يتحوّل إلى غلاف جميل لواقع خالٍ من المعنى.
*كاتب ومفكر – الكويت.