بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
قيم الحق ثابتة، والأخلاق الحميدة واحدة، والمفاهيم الإنسانية مشتركة، ومعاني الخير لا تتجزأ، ومعايير العدل لا تتبدل، ودرجات الشهامة ومنازل المروءة لا تتناقض، والسمو والضعة لا يجتمعان، والخير والشر لا يلتقيان، والنبالة والنذالة لا تتوافقان، فلا يكون الإنسانُ إنساناً في مكان ويتحول إلى وحشٍ في مكانٍ آخر، ولا يدعي النبل في موقع ويكون خسيساً في آخر، ولا يكون كالجزار يحمل غصناً بيدٍ وسكيناً حادةً باليد الأخرى، ولا يدعي الرحمة والإنسانية ويبدي الشفقة والرأفة بين جمعٍ من البشر، ثم يكون عكس ذلك وأشد بين غيرهم من الخلق، الذين يساوونهم في الإنسانية ويتوافقون وإياهم في الخلق، وربما يشتركون معهم في الأرض والدين، لكنهم يتمايزون عنهم في الانتماء والجنسية.
الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وألحق أضراراً بالغة في البلدين، وتسبب في خسائر فادحة في الأرواح بين الشعبين، وضاعف الخسائر الأليمة وفاقمها أنه وقع في ظل موجاتٍ قاسيةٍ من البرد والصقيع، والعواصف الشديدة والأمطار الغزيرة، كشف عن تناقضٍ في الأخلاق مخلٍ، وازدواجية في المعايير معيبة، وعنصريةٍ في السلوك مقيتةٍ، فالضحايا من الجانبين عربٌ وتركٌ، جيرانٌ منذ الأزل، وإخوانٌ منذ أمد، مسلمون ومسيحيون على مدى الزمن، جمعتهم الأرض ووحدهم التاريخ، وسمت بهم أخلاقهم النبيلة، وارتقت بهم قيمهم العظيمة وعلاقاتهم الرشيدة، وهم من قبل هذا كله بشرٌ متساوون في الخلق والحقوق.
المصيبة كبيرة، والخسائر من الطرفين جسيمة، وحجم الدمار في المنطقتين مهولٌ جداً، مما استدعى أصحاب دول العالم المختلفة إلى الإعلان عن عزمها المشاركة في حملات إغاثة ومساعدة المنكوبين من هذا الزلزال، فحركت الحكومات أساطيلها الجوية، ونقلت إلى الأرض طواقمها الإغاثية والإسعافية، المحملة بكل ما يحتاجه المتضررون من هذه الكوارث، كالفراش والأغطية والملابس والأدوية وغير ذلك، ولحقت بها الفرق الفنية الخاصة بمثل هذه الكوارث الطبيعية، ممن لهم القدرة وعندهم الخبرة ولديهم الأجهزة المختصة في إزالة الركام والأبنية المهدمة، وتستطيع بالإضافة إلى استخراج الجثت، البحث عن الناجين وإنقاذهم، والوصول إلى العالقين وإخراجهم.
أمام هول النكبة اتجهت أغلب المساعدات الدولية نحو تركيا، التي نعتز بها ونفتخر، ونقدر جهودها ونحفظ مكانتها، ونترحم على ضحاياها ونتمنى السلامة لأهلها والشفاء لجرحاها، وهي الدولة القوية القادرة الرائدة، صاحبة التجربة والخبرة والكفاءة، التي ربما تستطيع وحدها أن تداوي نفسها بنفسها وتبلسم جراحاها وتدفن ضحاياها، وتعيد بناء ما تهدم من بنيانها وتخرب من عمرانها، ورغم ذلك فقد شكرت كل من هب لنجدتها، وسارع لمساعدتها، وأبدى استعداده للتعاون معها وتقديم المساعدات للمتضررين من أبنائها.
لكن هؤلاء الذين انبروا لمساعدة الأتراك، وحركتهم النخوة لنجدة المنكوبين، نسوا أن الزلزال قد أصاب سوريا أيضاً، وتسبب لها في خسائر فادحة، وألحق ضرراً كبيراً بمدنها وقراها، وقضى على المئات من مواطنيها، وترك أهلها وحدهم يواجهون الموت المندفع، والدمار الذي على مدى العين لا ينقطع، والخراب الذي أحدثه الزلزال المُرَوَّع في ظل أجواء الشتاء العاصف وموسم الثلج البارد، وقد انتشرت صور معاناتهم، وتداول المهتمون على وسائل التواصل الاجتماعي حوادث عنهم كثيرة، توخز الضمائر وتستجيش المشاعر.
تخلى مُدَّعوو الإنسانية عن أخلاقهم وشيمهم، وقسموا قيمهم ومبادئهم، وأغمضوا عيونهم ولم يلتفتوا إلى قلوبهم، فلم يمدوا اليد لمساعدة المنكوبين في سوريا، ولا لنجدة المفجوعين من أهلها، وهم يعلمون أنهم ضعفاء فقراء، ومحاصرون معاقبون، ولا حول لهم ولا قوة، ولا معدات عندهم ولا آليات، ولا وسائل تساعدهم ولا سبل تنقلهم، وأنهم يركبون المستحيل للوصول إلى المناطق المنكوبة، ويجرفون الأنقاض بأيديهم التي يبسها البرد، وينقبون في الأرض بأظافرهم التي تكسرت، وهم يستنقذون الأحياء ويستخرجون الأموات، ويصغون السمع في أجواء من الصمت المخيف والخشوع المهيب، علهم يسمعون أنيناً، أو تصل إلى مسامعهم آهةٌ، أو يشعر بهم حيٌ فينادي عليهم مستغيثاً بهم.
قد لا نملك نحن أبناء الأمة العربية والإسلامية غير الدعاء لسوريا وشعبها، التي ما كادت تتجاوز محنتها الدموية حتى أصابتها الطبيعة بنابها، لكن هذا لا يمنعنا أبداً من أن نرفع أصواتنا عاليةً ندين بها السلوك العالمي المشين ضد سوريا وشعبها، ونستنكر الحصار البغيض المفروض عليها، والذي يساهم إلى جانب الحرب والزلزال في تعميق الجراح ومضاعفة الآلام وزيادة أعداد الضحايا والمنكوبين، وعلينا أن نعلن أن هذا الحصار المفروض على سوريا، حصارٌ ظالمٌ قاتلٌ ومميت، وهو يتنافى مع مفاهيم الإنسانية ومعايير العدالة، وهو ليس انتصارً للشعب وانتقاماً من النظام، وإنما هو انتصارٌ للغرب ومصالحه، وتمكينٌ للكيان وتبديدٌ لمخاوفه، فالشعب بسيف حصارهم يذبح، وبقيصر قانونهم يقتل، وبخبث سياستهم يخنق.