لم تكن حالة الهدوء النسبي التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الماضية سوى استراحة محارب لالتقاط الأنفاس، وتقدير الأوضاع، وإعادة الحسابات، بانتظار الجولة القادمة من الاشتباك في كل الميادين.
كان لذلك الهدوء مبرراته، لأنه ترافق مع المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، والمفاوضات غير المباشرة حول ملف الغاز في لبنان، والهدنة في اليمن، واستتباب الأوضاع نسبيا في العراق، والهدوء الموجود في الميدان السوري.
ولأن الملفات كلها مفتوحة ومرتبطة بحالة رسم موازين القوى والقوة الجارية على الساخن والبارد في المنطقة والعالم، فمن المؤكد أن حالة الهدوء هذه لن تستمر، خاصة بعد من وصول مفاوضات الملف النووي الإيراني إلى حالة الموت السريري، والتعقيد المتزايد في الميدان الاوكراني، لذلك من المتوقع أن نرى في الفترة المقبلة حالة تصعيد ستكون ساخنة على أكثر من جبهة وميدان، وربما فتح ميادين جديدة في المنطقة والعالم.
ما حدث في إيران سواء في المظاهرات التي تأكد أنها حدثت بفعل غرف عمليات خارجية كان للسعودية دور مباشر فيه، وبشكل يشبه ما حدث في سورية تماما، او بفعل الهجمات الإرهابية وخاصة في شيراز، وعمليات الاغتيال المتواصلة كان المؤشر الأهم لما هو متوقع من تصعيد.
من سوء حظ حلف العدوان الذي حاول تكرار السيناريو السوري في إيران، ان إيران أثبتت أنها قوية، سواء بقيادتها أو بمؤسساتها الأمنية والعسكرية وبحاضنتها الاجتماعية، ولذلك تمكنت من امتصاص الصدمة، ومن سحب فتيل التفجير من يد غرفة العمليات المعادية بسرعة، مما سيمكنها من معالجة الثغرات وتحصين الجبهة الداخلية، وملاحقة أدوات العدوان الداخلي والتعامل ميدانيا مع العدو الخارجي.
وإذا ما ربطنا هذه التطورات مع عودة اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو بحكومة أكثر يمينية وتطرفا، وبالفوز المتوقع الجمهوريين وأنصار ترامب تحديدا في انتخابات التجديد النصفي الكونغرس الأمريكي، يجعل كل المؤشرات تؤكد أن نقاط الاشتباك ستعود إلى التسخين والصدام وبشكل أعنف هذه المرة.
الميادين المرشحة للتصعيد عديدة أبرزها:
الميدان الفلسطيني والذي يشهد تبدلاً كبيرا في قواعد الاشتباك، أبرزها ظهور اجيال وأساليب جديدة للمقاومة، أكثر قوة وفعالية وتأثيرا من القيادات والفصائل التي قادت المقاومة في المراحل السابقة وتتجاوزها في كل شيء، بما فيها منظمة التحرير وحركة حماس، وازدياد قوة وفعالية حركة الجهاد الاسلامي بتوجهها المقاوم، مما يجعلها تتمدد وتسحب البساط (بشكل مدروس) من تحت حركة حماس بتوجهها الاخواني، إضافة إلى تمدد المقاومة إلى الوسط العربي داخل الأراضي المحتلة قبل عام 1948.
الميدان اليمني مرشح للتصعيد بما لا يقل في سخونته وتأثيره عن الميدان الفلسطيني، حيث أثبتت الفرص التي أعطتها صنعاء لتحالف العدوان عبر الهدن العديد أن النتائج لم تكن كما يتوقعها الشعب اليمني، ولم تلب حاجاته ومتطلباته، وان تحالف العدوان يتنصل من التزاماته، وهذا بالتأكيد يجعل من الهدنة مرشحة للانهيار أو لعدم التجديد، ويبدو واضحا من الاستعراضات العسكرية المتعددة التي اقامها الجيش اليمني، ان حكومة صنعاء باتت تمتلك زمام المبادرة، وان رسائلها للداخل والخارج لم تتوقف على الميدان العسكري، وانما نشطت حتى في الميدان الاجتماعي، حيث تخوض معركة كسب العقول والقلوب والتي لا تقل أهمية عن الميدان العسكري.
في الميدانين العراقي واللبناني، حيث تتشابه الظروف وتتشابك مع بعضها، يتوقع أن نرى تصعيدا في الملفين السياسي والعسكري، حيث الصراع يدور على شكل الحكومة وتوجهاتها في العراق، وعلى الحكومة والرئيس في لبنان، وان التصعيد سيطال الجانب الميداني خاصة مع التأكد من ان غرفة العمليات التي استهدفت ايران متواجدة في منطقة كردستان العراقية، وان قوى وشخصيات عراقية شاركت حلف العدوان في هذا الاستهداف، كما ليس سرا محاولات الولايات المتحدة وأدواتها إعادة تنشيط خلايا داعش في العراق وسورية تمهيدا للمرحلة المقبلة، وهذا التصعيد ربما سيؤدي في ميدانه اللبناني إلى تجميد العمل بالاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الكيان الصهيوني حول حقول الغاز البحرية، وربما أكثر من ذلك.
الميدان السوري يبدو أنه الأصعب بين هذه الميادين بسبب كثرة التشابكات والتعقيدات الموجود فيه، والتناقضات الكبيرة بين الدول والقوى المتداخلة في هذا الميدان، ويكفي أن نشير إلى ما قاله الرئيس الروسي بوتين أمام مؤتمر فالداي بأن استراتيجية بلاده في المنطقة تقوم على التعاون مع تركيا وإيران والسعودية، حيث الأطراف الثلاثة متدخلة في الملف السوري والكل ضد الكل في هذا الميدان، كما ان عدم ذكر بوتين لسورية في استراتيجيته التي اعلنها تعني انه ينظر الى الملف السوري كملف يتعلق مباشرة بروسيا، ومن غير المعروف حتى الان كيف ستكون انعكاسات هذه الاستراتيجية على الميدان السوري في المرحلة المقبلة، والأمر منوط بالتحرك الروسي، وفي كيفية تعامل القيادة السورية مع هذا الموضوع الشائك، لكن الارتباط الوثيق لسورية مع حلف المقاومة، ووجود مصلحة سورية في مقاومة الاحتلال الأمريكي وإخراجه من المناطق التي يحتلها، وهو ما ينطبق على المحتل التركي أيضا، يجعل من الميدان السوري مرشح للتصعيد وربما بسخونة لا تقل عن الميدانين الفلسطيني واليمني.
** حالة التصعيد هذه المرة ستتجاوز نقاط الاشتباك التقليدية لتتوسع أفقيا نحو ميادين أخرى، وهو ما نراه اليوم في الباكستان المرشحة لتكون جبهة صراع وصدام ساخنة لحسم خياراتها في أي مكان ستتموضع بين القوى التقليدية المرتبطة بالأمريكي، أو القوى التي يمثلها عمران خان المتمرد على الأمريكي، ويفضل التموضع في الحلف الصيني الروسي الصاعد.
بالتأكيد أن الأمريكي - ومعه حلفاؤه وأدواته - والذي يرى البساط ينسحب من تحته بقوة من قبل الحلف الصيني الروسي، والذي وصل إلى حديقته الخلفية في أمريكا اللاتينية مع فوز لولا داسيلفا في انتخابات الرئاسة البرازيلية، وهو السيناريو المتوقع (على الساخن) في الباكستان، سيجعل السياسات الامريكية أكثر عدوانية وتحركا لمقاومة المد الصيني الروسي، وهذا يجعلنا نتوقع فتح عدة نقاط توتر واشتباك في المدى الحيوي والاستراتيجي لبكين وموسكو، وقد يفتح جبهات نتوقعها هادئة اليوم لتتحول الى نقطة ساخنة في اية لحظة.
طبعا كل هذه التطورات مرتبطة بالميدان الاوكراني، حيث تتهيأ أطراف الصراع لحسم أكثر من ملف عسكري واقتصادي وسياسي، على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في أوروبا خاصة والعالم عامة، تجعل الأوضاع مرشحة إلى كل انواع التصعيد، وهو ما دعا الولايات المتحدة لتعطي الإنذار الأحمر لقواتها في السعودية والكويت والعراق وسورية، وقولها - بحسب ما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال - لن نتردد في العمل للدفاع عن مصالحنا وشركائنا في المنطقة.
وهو ما أكده أيضاً موقع /تيك ديبكا/ المقرب من الاستخبارات الاسرائيلية، بأن "الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط وُضع في حالة تأهب بعد أن نقلت السعودية للولايات المتحدة معلومات استخباراتية تتوقع هجوما ايرانيا على السعودية، وعلى أهداف أخرى في العراق والشرق الأوسط. ونتيجة للمعلومات السعودية، تم وضع جميع القواعد والقوات الأمريكية في الشرق الأوسط في حالة تأهب".
كل هذه المؤشرات تؤكد أننا سنشهد شتاء ساخنا في كل الميادين، بعكس المناخ في هذا الفصل البارد، ونعتقد أن هذه الجولة من الصراع ستنتهي بمزيد من الخسارات للحلف الأمريكي الأوروبي الصهيوني، وبتقدم جديد للتحالف الروسي الصيني عالميا وحلف المقاومة إقليميا.
أحمد رفعت يوسف