بقلم: محمد فياض
وثيقتان دوليتان تم التوقيع عليهما من 56 دولة تحت مظلة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي..الأولى وثيقة اسطنبول في نوفمبر عام 1999 .والثانية وثيقة آستانا في ديسمبر من العام 2010 ..واعتبرتها الدول الموقعة بمثابة دستور موجوب احترامه..أو على أقل تقدير بالميثاق.وجاء في مادته الثامنة :” لكل دولة عضو الحق المتساوي في الأمن ”
ولن تعزز أي دولة أمنها على حساب أمن دول أخرى..الأمر الذي أقر قاعدة الإلتزام بمبدأ الأمن المتساوي والغير قابل للتجزئة.
وبمراجعة أولية لهذا المبدأ وتلك الوثيقة نخلص إلى أن السيد فلاديمير بوتين قد قرر الآن ماقرره وقام بتنفيذه في مواجهة الصلف الأمريكي وعجرفة وعنجهية أحادية القطبية حال خرجت الآلة العسكرية الروسية لهدف الحسم على الجغرافيا العربية السورية في العام 2015 في مواجهة حلف واشنطن وقوات التحالف المؤلفة من جيوش 65 دولة منها جيوش الناتو للإجهاز على الجيش العربي السوري وإخراج الأسد من سدة الحكم لغاية تمزيق سورية لتسهيل الإنتقال إلى المرحلة النهائية من مشروع الشرق الأوسط الكبير عبر آلية الفوضى الخلاقة.وقبيل إرسال بوتين عتاد وأفراد من الجيش الروسي إلى المياه الدافئة لنصرة سورية كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أرسلت برنار هنري ليفي إلى كييف بعد أن أدى دوره في بنغازي ليبيا..وفي كييف وقف يخطب في ساحة الميدان في العاصمة الأوكرانية أمام المعتصمين يحرضهم على الثورة ضد نظام الحكم لإحداث قلاقل لجهة موسكو وكانت الأحداث في جزيرة القرم والتي قررت موسكو وردا على تهديدات الغرب عمل الإستفتاء والذي على إثر نتيجته تم ضم القرم إلى روسيا..
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم وذهابها للحرب وإسقاط دول تقع في الملعب الجيوسياسي للأمن الروسي مثل العراق وافغانستان..ولم تكن روسيا بالقوة التي تمكنها من فرض إرادتها وقتئذ ..
وعندما قررت موسكو استعادة السيطرة على قرارها وأمنها القومي وخرجت للحرب في سورية لم تستوعب واشنطن وحلفها الرسالة.رغم عشرات البراهين التي تثبت لكل قاريء مبتديء في الخارجية الأمريكية أو حتى في البيت الأبيض .من الفيتو الروسي الصيني المزدوج في كل مؤتمرات جنيف ووأد كل محاولات التحرك ضد سورية عبر الأمم المتحدة ومنظماتها مثل مجلس الأمن..وحتى تصريح بوتين لن نسمح بسقوط النظام السوري ولو انتقل القتال إلى شوارع موسكو . على إثر زيارة رجل مخابرات الرياض الذي طلب من موسكو الخروج من خلف الأسد وتركه وسورية للقرار الأممي لجهة تسهيل إسقاط دمشق.
ربما اعتقد بعض المتابعين للصراع الروسي الغربي أنه ثمة صراع بين الكبار مخطط له ومتفق عليه وفق أجندة وتوزيع الأدوار..لكن حقيقة الأمر أن روسيا العائدة إلى ممارسة دورها الدولي رسمت لحركتها طريقا وطريقة اعتمدتها لجهة تكسير العظام والمفاصل الغربية المعتدية دائما على المواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية وفي القلب من هذا كله ميثاق الأمم المتحدة.وأرادت موسكو العائدة إعادة العالم إلى الحظيرة الدولية وفق ميثاق الأمم المتحدة منتوج الحرب الكبرى الثانية مع فتح الطريق ربما إلى إمكان تنقيح وتعديل مايتماشي مع الشرعية الدولية وحقوق الشعوب..وأرسلت الممارسات الروسية في عهد بوتين عدة رسائل إلى العالم الذي تتوجه إليه موسكو وتقصده بالأخذ بأسباب الخروج من الهيمنة الأمريكية وشق عصا الطاعة وإتاحة الفرصة للعواصم كسر الطوق الأمريكي والغربي وامتلاك شجاعة الذهاب إلى المدرسة الروسية لتسليح الجيوش وطلب التعاون المتبادل وفق قواعد مغايرة تنتصر للمصالح المشتركة دون رهن القرارات الوطنية لتلك العواصم لدى الأجنبي .
رسائل كثيرة منذ مجيء بوتين لم تستوعبها الإدارة الغربية والأمريكية..حتى أرادت الولايات المتحدة مد خط الإعتداء على الخطوط الحمراء على استقامته لجهة تقليص الفواصل الجغرافية بين روسيا والناتو من 800 ميل حتى صارت المسافة اقل من 150ميل عبر ضم دول الفناءات الروسية إلى الناتو ..ولم تكن موسكو بالتعافي القادر على المواجهة..حتى شجعت أمريكا كييف بطلب الانضمام إلى الناتو..هنا كان لابد للقيصر أن يضع الكرة الأرضية كلها على المحك وأن يهدد ويتوعد لسبب بسيط جدآ هو أن انضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي يجعل المسافة بين روسيا والناتو تساوي صفر كيلومتر .
وتهديدات موسكو باجتياح أوكرانيا هنا لن يكون في تقديري هدفاً للقيصر..بقدر ما هو إن أقدم عليه وسيلة يتبعها إجراءات أخرى لهدف غاية الوقوف على محدد للأمن القومي الروسي .ينتصر لما تم الإتفاق عليه في وثيقتي اسطنبول وآستانا..القواعد التي اعتدت عليها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .لتوثيق شهادة وفاة النظام العالمي والمنظمة الأممية لتاريخ سابق منذ سقوط الاتحاد السوفيتي والنظام الثنائي القطبية..ولإعادة ترسيخ أحادية القطبية وانفراد واشنطن بالعالم وإعادة التذكير بوعد ترومان في 1945 بالقرن الأمريكي..
لكن القيصر الذي بات قادراً الآن على إعادة العالم إلى الحظيرة الدولية ووضع الجميع تحت المظلة الأممية وصياغة نظام عالمي جديد متعدد القطبية قرر المواجهة ووضع من اقتراب الناتو إلى أوكرانيا بمثابة الطلقة الأولى في الحرب العالمية الثالثة.وقام باستعراض قوة موسكو وتحالفاتها مع بكين ومع طهران وتكوين الحلف المقابل للناتو ووصل الأمر صراحة إلى التهديد بالحرب النووية المدمرة.
ويقف العالم يعد الأنفاس.. الولايات المتحدة ترسل عناصر من جنودها إلى أوروبا..ولندن والناتو يقول بتسليح كييف ..وبوتين يطوق أوكرانيا من الشمال والشرق والجنوب .ويهدد بسحق أوروبا ويهدد بنشر الصواريخ الروسية في كوبا وفنزويلا لوضع الولايات المتحدة الأمريكية تحت التهديد النووي المباشر..
لكن في حقيقة الأمر أن القيصر الروسي العائد رغم جهوزيته القصوى لدخول الحرب إلا أنه مازال يمارس أدوات الدبلوماسية مع الغرب وواشنطن..
فقد حدد مطالبه المشروعة والتي تم الإتفاق عليها في اسطنبول وآستانا..يطلب فقط احترامها وإفهام إدارة بايدن أنه لن يقبل بتجزئة الأمن ويطلب من الطرف الآخر الإلتزام بمبدأ الأمن المتساوي..وعدم قبول إنضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي وبالتالي الناتو لأن الأمر هنا لايتعلق بسيادة دولة أوكرانيا وحقها في إقامة تحالفات أو الإنضمام إلى تحالف عسكري قائم..لأن هذا الحق في صياغة أمنها يأتي على حساب أمن دولة أخرى.ويأتي بالبلطجي الكاوبوي إلى الحدود الروسية وهو بالأمر المرفوض بالمطلق لدى قيصر موسكو ويتفق والمادة الثامنة من ميثاق الأمن الجماعي الأوروبي.
ومن يعتقد أن موسكو تستعرض القوة وتهدد باستعمالها هو من قبيل الدبلوماسية الخشنة والمسلحة وأن بوتين سوف يتراجع ويقبل إنضمام أوكرانيا إلى الناتو..من يعتقد ذلك عليه مراجعة الملف كاملاً..وليراجع موقف القيصر الذي نقلته الميديا للعالم في لقائه بالرئيس الفرنسي ماكرون.
يجلسه على طاولة طويلة ليعلن عليه وأمام العالم أن المسافة بين ماقررته موسكو وبين الموقف الأوروبي بعيدة جدآ لازالت..وعندما أشار عليه أن يتبعه إن أراد وليس أمام ماكرون إلا أن يتبع بوتين..عندما انتهى معه من المؤتمر الصحفي ويتركه ويخرج وماكرون يتبعه والمسافة بينهما كبيرة.. والبروتوكول في مثل هذه الحالات لامحل له ..ولم يقصد بوتين ماكرون في شخصه ولاحتى في صفته الرئيس الفرنسي بل يقصد بالقطع صفته الأوسع كرئيس للإتحاد الأوروبي الآن..ولإرسال الرسائل الأخيرة ربما إلى أوروبا العجوز التي بدون مصادر الطاقة الروسية تتجمد أوصالها وتنقطع أواصرها وليس بمقدور واشنطن تعويضهم وإمدادهم بالوقود لا من الولايات المتحدة مباشرة ولا عبر استدعاء الأمير القطري .لجهة التعويض عن الغاز الروسي.
ويقيننا أن دبلوماسية المدافع والغواصات النووية المدمرة التي يستخدمها بوتين سوف تدفع العالم إلى إنتاج نظام عالمي متعدد القطبية .ودون تشغيل آلات حرق العواصم..لأن من يقف على الطرف الآخر سوف لايذهب إلى الحرب بل إلى بعض التسويات في ملفات إقليمية ودولية انسحبت منها واشنطن وحلفها مضطرة نتيجة الحضور الروسي الصيني إلى ميزان المعادلة الدولية وتشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب.