ناصر قنديل
– تختصر معادلة استشهاد القياديّ المقاوم جهاد عماد مغنية الكثير من العناصر التي تروي حكاية المقاومة ومشروعها ومعادلاتها. وفي مثل هذا اليوم استشهد جهاد بن عماد على أرض القنيطرة السورية على حدود الجولان السوري المحتل، بغارة إسرائيلية استهدفته مع عدد من رفاقه.
– أولى المعادلات هي تعاقب الأجيال في مسيرة المقاومة. فالمقاومة اليوم تقاتل بشباب الجيل الرابع من الأحفاد بعدما أدّى الذين أسسوا دورهم القيادي وحمل أولادهم عبء التحرير، وأحفادهم عبء الانتصار في حرب تموز وأحفاد الأحفاد صنعوا مجد النصر في سورية وهم يكملون.. وأمامهم جيل جديد يستعدّ لحمل الراية. وهذا التجديد في شباب المقاومة يشكل أحد أهم مصادر قوتها، فهي مقاومة شابّة كما تقول فلسطين اليوم حيث ينخرط في ساحات العمل المقاوم مَن لم يبلغوا الثمانية عشرة من أعمارهم، فيخرجون منفردين من خارج التنظيمات، كما تقول عمليات الطعن والدهس التي ينفذها شباب وصبايا بأعمار الورود.
– المعادلة الثانية التي تقولها الحكاية هي هذا الترابط منذ الولادة بين المقاومة وسورية، فمنذ الولادة حظيت المقاومة وهي تحاصر من الخارج والداخل، برعاية ودعم سورية، وكثيراً ما كانت بحاجة لهذا الدعم بوجه عدد من المسؤولين السوريين كانوا يجدونها مصدر قلق على منهج التسوية والانخراط في منظومة العلاقات الدولية التي يقودها الأميركي في المنطقة. وكانت قيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس بشار الأسد تتدخل لتجعل ملف العلاقة بالمقاومة ورعايتها مسؤولية شخصية مباشرة تُدار من الرئاسة حصراً. وفي عدوان نيسان 1996 نجحت هذه العلاقة العصيّة على فهم الكثيرين آنذاك بصناعة تفاهم نيسان الذي شرّع المقاومة وحمى قدرتها على الردع، وفتح لها أبواب تعزيزها بمخزون الصواريخ السورية. وعندما استحق قطاف التحرير وحاول الرئيس الأميركي بيل كلينتون مع الرئيس الراحل حافظ الأسد في قمة جنيف التي جمعتهما قبيل التحرير بأيام، أن يضعَ على طاولة الأسد مقايضة ما سماه بالانسحاب الإسرائيلي المنسق من جنوب لبنان مقابل إطلاق مسار تفاوضي حول الجولان، قال الرئيس الأسد فلينسحب الإسرائيليون وبعدها نرى، طلباً لنصر نظيف للمقاومة كان يؤمن بقدرتها على انتزاعه، رغم ما أعدّه الإسرائيليون من مشاريع لتفجير المناطق التي سينسحبون منها بفتن وحروب أهليّة. وعندما شُنّ على المقاومة عدوان تموز 2006 وجدت المقاومة في سورية خير نصير، حيث قرّر الرئيس بشار الأسد وضع مقدرات الجيش السوري بتصرّفها وصولاً لدخول الحرب عندما تجد قيادة المقاومة ذلك ضرورياً، وعندما تعرّضت سورية لخطر الاستهداف وحشد لها العالم ما يعادل حرباً عالمية لم تتردد المقاومة بالقول لن نسمح بأن يُكسَر ظهرنا ويُضرَب سندنا، وسنكون حيث يجب أن نكون، فقدمت الشهداء وقاتل المقاومون كتفاً الى كتف مع ضباط وجنود الجش العربي السوري حتى تحققت الانتصارات وتدحرجت من الشمال الى الجنوب. وعندما احتاج لبنان في مواجهة كورونا للأوكسجين وطلبه من سورية لبّت سورية النداء ولم تتذرع بأصوات نشاز تلوك اسمها بالسوء. وعندما قررت المقاومة جلب المحروقات من إيران الى لبنان وجدت في الموانئ السورية محطة الانتقال وأساطيل النقل بلا مقابل، وعندما قرّر الأميركيّون الردّ على سفن كسر الحصار اضطروا للاعتراف بأن معادلة المقاومة وسورية هي معادلة التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن مقاومتها ولا معاندتها، فلا شيء يمكن فعله للاقتصاد في لبنان إلا بالمرور عبر سورية، فكان استثناء استجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر سورية الى لبنان من نظام العقوبات الأميركي الجائر.
– المعادلة الثالثة هي وحدة المعادلة التي تربط جنوب سورية وجنوب لبنان، فبعض السذج من السياسيين اللبنانيين يتوهّم أن الرابط بين مزارع شبعا اللبنانية والجولان السوري ناجم عما يسمّونه عدم موافقة سورية على ترسيم الحدود بينهما، بينما الخرائط التي تظهر هذه الحدود موجودة منذ العام 2000 لدى الأمم المتحدة وقد تحدث الأمين العام للأمم المتحدة مراراً، ومثله المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون عن أن «اسرائيل» ترفض حتى الانسحاب لصالح الـ «يونيفيل» من مزارع شبعا بانتظار حسم الوضع في الجولان، والسبب يقوله الإسرائيليون، أن الاحتلال الإسرائيلي للجولان الذي يمثل قيمة استراتيجية في خطط الأمن الإسرائيلي يفقد هذه القيمة إذا فقدت «إسرائيل» سيطرتها على مزارع شبعا اللبنانية، فيما تحتاج أية معادلة لتحرير مزارع شبعا الى نوع من الحضور في جبهة الجولان، والعكس بالعكس، بينما ينظر الإسرائيليون الى تهديد المقاومة بالدخول الى الجليل في أي حرب مقبلة بصفته أمراً يصعب منعه إذا تمكنت المقاومة من التموضع على ضفاف المزارع والجولان، وليس خافياً أن جهاد عماد مغنية استشهد وهو يترجم كل هذه المعادلات الميدانيّة.
– المعادلة الرابعة هي تلك التي قالها التوقيت. ففي مثل هذه الأيام عام 2015 كان الأميركيون قد حسموا أمر السير بتوقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، وتمهلوا ليمنحوا حلفاءهم وفي طليعتهم «إسرائيل» الفرصة للقيام بما يوفر لهم شروط الوقاية من تداعيات الاتفاق. واختار الإسرائيليون فرض معادلة ردع على جبهة الجولان لا تسري عليها قواعد المواجهة مع المقاومة في جنوب لبنان، وكانت الغارة التي اغتالت جهاد مغنية ورفاقه، والرهان الإسرائيليّ قائم على أن المقاومة لن تجرؤ على الردّ لتثبيت معادلتها الرادعة المعاكسة، فالانخراط الإيرانيّ في المفاوضات سيكون كافياً لمنع المقاومة من الرد، وفقاً للفهم الذي يملكه الإسرائيليون لنوع العلاقة في هذا التحالف أسوة بسائر التحالفات، وكانت المفاجأة مزدوجة، فردّت المقاومة بعملية شديدة القسوة على الاحتلال في مزارع شبعا من جهة، ومن جهة مقابلة اضطر الإسرائيلي لعدم الرد على الرد، بقرار أميركي ترجمته برقية الرئيس الأميركي باراك أوباما لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، والتي قال فيها إن الضربة موجعة لكنها لا تستحق حرباً، فقال نتنياهو إن حكومته ستعض على الجراح ولن تقوم بالردّ.
– الشهداء يكتبون حقائق بدمائهم. وهذه الحقائق تنمو، وهذه قيمة شهادتهم. وهذه بعض الحقائق في شهادة جهاد عماد مغنية حيّة نعيشها كل يوم، فيكونون «أحياء ولكن لا تشعرون».