هو ممّن تخرجوا من مدرسة الإمام الخمينيّ قدس سره، وسار على درب الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره، وكان مصداقاً لمقولة: "من كان في حصن الله، لا يخشى شيئاً". كانت تتجلّى روحه المعطاء في تعامله مع الجميع، ولا سيّما الأيتام والشباب. وبقدر ما كان هذا الرجل صلباً وثابتاً في وجه الاحتلال، بقدر ما كان يفيض بالحبّ، والمودّة، والرعاية للمحيطين به. هو الشهيد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)، صاحب البسمة التي لم تفارق مُحيّاه، والمقرّب من الناس جميعاً، ذاك الذي لم تعيِه مجالسة أيّ أحد عند حافة الطريق، أو تحت شجرة... وتطول القائمة. همّه الشباب والناس وعن هذه الأمور نتحدّث.
•الشباب والشيخ الصديق
كان الشيخ راغب يولي الشباب أهميّة بالغة في خطاباته، وكان لا ينفكّ يؤكّد على المثابرة واستثمار الشباب بالميادين كافّة بكلّ ما أوتوا من قوّة وعزم.
وكان يهتمّ بشؤون الناس ويسأل عن أحوالهم. يروي السيّد موسى فحص، صديق الطفولة، أنّ الشيخ كان مختلفاً عن أقرانه، حيث كان "يحمل همّ" الجميع ويطمئنّ عنهم كما لو كان الأخ الأكبر الحنون أو الأب العطوف الذي يخاف على عياله.
ويضيف قائلاً: "كنّا نتمشّى بين أشجار الزيتون في البساتين، ويسألني عن أحوال فلان وأخبار فلان وفلان وأوضاعهم، وكان يسألني عن صلاتهم، وعباداتهم، وعلاقاتهم مع الآخرين؛ لأنّه كان يخاف على دنياهم وآخرتهم. كانت علاقتنا المميّزة تسمح لي بأن أتحدّث معه بكلّ صراحة، وكنت على يقين من أنّه بسؤاله عن الناس، كان هدفه الإصلاح، والتوجيه، والمساعدة".
يردف السيّد موسى قائلاً: "كنت أعلم جيّداً أنّه يسأل الأصدقاء عن أحوالي كما يسألني عن أحوالهم، ونتيجة ذلك كنت أشعر أنّه رقيب عليّ، فأضطرّ بالتالي إلى أن أكون رقيباً على نفسي، لأصل إلى مرحلة أدرك فيها بأنّ الخجل والخوف من الله هما أساس كلّ شيء، وأنّ استثمار الوقت مهمّ جدّاً، فكلّ لحظة تمرّ دون استثمار، إنّما هي فرصة ضائعة، وهي المبادئ التي ربّانا عليها سماحة الشيخ".
ويذكر أيضاً، أنّ الشيخ كان يتوجّه إلى الشباب قائلاً: "أيّها الشابّ، إنّ كلّ يوم تطلع فيه الشمس يشهد عليك... ربّما تقول إنّني الآن شابّ وسأؤجّل القضاء إلى غد... لكن من يؤكّد لك أنّك ستكون من أبناء الغد؟ وكم من الشباب فاجأهم الموت دون أن يدركوا القضاء؟!".
•حضن وملجأ للجميع
كان الشيخ ملجأ من يحتاج إلى النصح والمشورة، وحول ذلك تقول أمّ مصطفى: "حتّى الفتيات كنّ أيضاً يرينه قدوة، ويلجأنَ إليه مثلاً في حال تقدّم عريس للخطبة، ليسألنه عن رأيه ويطلبنَ موافقته على الخاطب. وكان الشيخ شديد الحرص على إبقاء الجميع تحت رعايته، وكان يزور بيوت القرية، ويسهر مع أهلها ويسامرهم، فيحتسي معهم كوباً من الشاي، ويتناول معهم الطعام من دون أيّ تكلّف، بل بكامل التواضع، والزهد، والمحبّة. ولذلك أحبّوه حبّاً جمّاً. كان الأطفال أيضاً يعشقون الشيخ، وكانوا إذا ما استرقوا السمع إلى أحاديثه من خلف النوافذ أو عبر الزقاق، لم يطلب إليهم الرحيل، بل كان يقترب منهم ويحضنهم".
أحدث استشهاد الشيخ راغب صدمة عند محبّيه، فكيف بهم أن يتقبّلوا رحيل من كان سنداً وعوناً لهم في أحوالهم، وأخاً وأباً حنوناً؟! وعن ذلك تقول أمّ مصطفى: "لقد كان الشيخ الحضن الدافئ للصغار والكبار على حدّ سواء، وبالأخصّ للشباب في مرحلة الاحتلال المظلمة، فكان يبثّ فيهم الطاقة الإيجابيّة، ويدفعهم نحو التقدّم، ويحثّهم على عدم اليأس، ويبعث الأمل والفرح في نفوسهم".
•قولاً وعملاً
يقول الشيخ إسماعيل حرب شقيق الشيخ راغب حرب: "كان الشيخ راغب يطلب منّا أن نحبّ الناس كلّهم، ونزورهم، ونتفقّد أوضاعهم. وكان يعمل وكأنّه طبيب جوّال، ويحاول مساعدة الجميع في أمورهم الحياتيّة والدينيّة. لم يكتفِ الشيخ بوعظ الناس، بل كان يعيش بينهم ليكون قدوةً لهم. وكان يكتفي بأقلّ القليل، ولم يكترث يوماً بالأمور الدنيويّة، لدرجة أنّه لم يملك منزلاً حتّى، وقد أراد بذلك أن يساوي نفسه بالآخرين، وكان يعمل على قاعدة (كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم)".
•انصب خيمة!
يركّز الشيخ عبد الكريم عبيد على دعوة الشيخ راغب إلى اعتماد نمط الحياة الطيّبة، كما عاشت السيّدة الزهراء عليها السلام، وخاصّةً في مسألة الزواج: "حول ذلك لطالما قال: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ﴾ (النور: 32)، وكان هذا الأمر عنده سنّة طبيعيّة جدّاً، إذ كان يحثّ الشباب على الزواج بأبسط القدرات، حتّى إنّه كان يذهب بنفسه ليطلب يد الفتيات إن شعر أنّ للأهل طلبات كثيرة تمنع الزواج".
ويؤكّد عماد عواضة حرص الشيخ على إحياء سنّة الزواج المبكّر ومساعدته للشباب في هذا الأمر، فيقول: "كان الشيخ يؤيّد مبدأ الزواج المبكّر إلى درجة أنّه كان يدفع من ماله الخاصّ، أو يقدّم من أثاث منزله من أجل إحياء هذه السنّة على مستوى المجتمع. وكان يعتبر أنّ زواجاً كهذا هو ما يبني الأسرة المنيعة".
وكان الشيخ يقول لبعض الشباب الذين يريدون الزواج ولا يقدرون على ذلك، أن ينصبوا خيمة على سطح المنزل ويبدؤوا حياتهم، بهذه البساطة!
لم تقف عطاءات الشيخ راغب عند هذا الحدّ، وإنّما كان يعطي من ماله الخاصّ للفقراء، دون أن يبالي إذا لم يبقَ معه قرش واحد؛ لأنّ رأس ماله الوحيد كان إغاثة المستضعفين والمحتاجين. وهو ما تؤكّده عائلته فتقول: "كان الشيخ راغب يشعر مع الفقير، والمحتاج، والجائع، ويحمل هموم الأمّة كلّها ومشاكلها".
وعلى الرغم من ذلك، كان الشيخ يرفض فكرة الاستسلام للظروف الاجتماعيّة القاهرة. ويذكر عماد عواضة أنّه كان يدعو الناس إلى إقامة مشاريع اكتفاء ذاتيّ، كما جاء في إحدى خطب صلاة الجمعة: "ما المانع من أن يمتلك المواطن خمس دجاجات مثلاً أو غنمة... فالإمام الخمينيّ قدس سره كان يقول: (إنّنا مستعدّون لتناول الخبز المصنوع من الشعير هنا -في إيران- ولا نريد شيئاً من الخارج)".
•بالكلمة الطيّبة
يتحدّث عماد عواضة عن المزيد من مكارم الشيخ راغب الأخلاقيّة، فيقول: "لم يكن لينادي الناس إلّا بعبارة (يا كِرامَ خلقِ الله)، وكان يجلّهم ويحبّهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم".
أمّا عن أسلوبه في التحدّث والتعاطي مع الناس، فتذكر عائلة الشيخ أنّه كان يمتلك أسلوباً خاصّاً به، وكان يستطيع أن يقدّم النصيحة لأيّ كان بأسلوب أخويّ سلس، فيتقبّلها الطرف الآخر بكلّ محبّة ورضى.
وكان الشيخ يعير اهتماماً للاختصاصات العلميّة؛ لما لها من أهميّة، وكان يشجّع الطلاب ويُشعرهم بقيمة ما يفعلون. وحول ذلك تقول عائلته: "كان الشيخ يمرّ على بعض طلّاب الطبّ، فيجلس معهم لفترة وجيزة، ويحتسي معهم الشاي، ليسأل عن أحوالهم، ويحدّثهم عن أهميّة إكمال دراستهم، وكم أنّ المجتمع بحاجة إلى أمثالهم".
•إرث معنويّ خالد
قليلة هي الكلمات التي يمكن أن تفي الشيخ راغباً ولو جزءاً من حقّه، ذلك العالِم الجليل، المتواضع، الزاهد الذي دخل بيوت الناس، فدخل قلوبهم وعقولهم، لا بل سكن فيها.
وعلى الرغم من الإنجازات الكثيرة التي حقّقها سماحته، وقد ترك الشيخ بصماته اللطيفة أينما حلّ، فلم يكتفِ بالبُعد الماديّ، مثل تأسيس مبرّات، ومكتبة، ومدرسة، ومؤسّسات خدماتيّة، ويبقى الإنجاز الأهمّ أنّه خلّف إرثاً معنويّاً في نفوس محبّيه جميعاً، حيث ستظلّ ذكراه، وكلماته، ومواقفه محفورة في ذاكرتهم ما داموا ينبضون بالحياة.
مجلة بقية الله