بَلَغَ قِصَر البصر السياسي للكتلة الغربية مستوى العدوان الكلامي الممارَس ضد روسيا. ورغم كل التحولات السريعة التي كابدتها هذه الإمبراطورية السابقة، فهي لا تزال تُعتبر خطراً يُهدد رفاهية الغرب وهدوءه.
بعد أكثر من قرن من الزمن "منذ معاهدة استيفانو عام 1878 بين روسيا والإمبراطورية العثمانية" مرّت روسيا خلالها بِحربين عالميتين وبتجربة "الإتحاد السوفياتي" والحرب الباردة حتى تلاشي هذا الإتحاد وعودة روسيا مجدداً، فعندما تم إنزال العلم السوفياتي في أواخر كانون الاول 1991، سقطت معه روسيا في نظرِ العديد من الروس قبل الغرب، إلى منزلة دولةٍ قوميةٍ عادية.
كان الروس مُشتتين ويُباعون مع الأرض حتى وحَّدهم "إيفان الرابع الرهيب"، "1530 - 1584 م"، ثم صُدِّرت إليها في القرن الثامن عشر، أعمق الإضطرابات الفكرية في أوروبا، وقبل ذلك، أبدى القيصر "بطرس الكبير"، "1694 – 1725" رغبة في تجديد روسيا، ومن باب التوسع السياسي، إعتَمَدت روسيا على التدخّل في الشؤون الدينية للدول، وطَرحَت نفسها كَمدافعٍ عن طوائف الأرثوذكس ومنها الموجودة في العالم العربي، فظهرت روسيا كمُدافع عن القوميات وعلى الأخص لدى أورثوذكس المناطق العربية، فكانت فرنسا تدافع عن الكاثوليك في السلطنة العثمانية، وتدخّلت روسيا للدفاع عن الأرثوذكس، وستأتي بعدها الولايات المتحدة الأميركية لتَتغلغل عن طريق التبشير المسيحي ذي الصبغة البروتستانتية.
كانت روسيا ضعيفةً إلى درجة أنه في أواخر سنة 1994 قام رئيس أميركا "بيل كلينتون" بطمأنة رئيس روسيا "بوريس يلتسين" بالتعهد علناً "بثلاثةِ لاءات": لا للمفاجآت، ولا للعجلة، ولا لاستبعاد روسيا، لكن بالحقيقة أنه كان يعمل عكس ذلك.
وقد أدّى انهيار القوة العظمى السوفياتية وعدم التوازن الروسي الذي تَبِع ذلك إلى نشوء الظروف المؤاتية لِوقف سباق التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا، وحدث تقدم حقيقي في دَعمِ أميركا لروسيا، فموّل برنامج "نون – لوغار NUNN - LOGAR" توحيد الترسانات النووية السوفياتية ضمن الأراضي الروسية، وقد بدأ هذا البرنامج في 1993 واكتمل في سنة 1996، وبذلك تم تجنب بروز أوكرانيا وبيلاروس وكازاخستان كقوى نووية على الفور.
كانت القوة الأميركية مسيطرةً على العالم، ولا تترك مجالاً لروسيا التي كانت ما تزال غارقةً في مشاكلها الداخلية، فمثلاً لم تهتم أميركا مطلقاً بوجود روسيا، وفقط، أَبلغ نائب الرئيس الأميركي "آل غور" – من باب فض العتب -، رئيس وزراء روسيا "يفغيني بريماكوف" الذي كان في الطائرة للذهاب لمقابلة "آل غور" بتاريخ 23 شباط 1999 في أميركا، بأن هجمات الناتو على يوغسلافيا أصبحت وشيكة، فما كان إلا أن أمَرَ "بريماكوف" طائرته بالعودة الى موسكو، وذلك حفاظاً لماء الوجه، واحتجاجاً على تهميش روسيا.
ورث "فلاديمير بوتين" عام 1999 هذا الإرث المُشبع بتاريخ القياصرة من "إيفان" الى "كاتيرينا" و "بطرس الكبير"، والتوازنات والإنتصارات والتراجع الدولي بعد الحقبة السوفياتية، وبقي يتابع المشاكل الداخلية لروسيا حتى مؤتمر قمة الثمانية التي انعقدت عام 2006 في بيترسبورغ، حيث بدأ فلاديمير بوتين قبلها بزمنٍ بتثبيت روسيا على الساحة الدولية، لكن أثناء تناول العشاء، تحدّى معظم القادة المشاركين الرئيس "بوتين" في ما يتعلق بِسجلّهِ الديموقراطي، إلا أن الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" كان له رأي آخر ومخالف لأميركا، حيث أعلن أمام الجميع أن "ما يفعله "بوتين" هو أمر جيّد لروسيا، ولا يحقُّ لنا التدخل في كيفية إدارته للأمور هناك".
كان "بوتين" شخصاً فخوراً بنفسه ومحباً لبلده. أراد أن تُصبح روسيا ذات نفوذ قوي مرة أخرى، وهو شيء لم تُرحِّب به أميركا بالتأكيد، وقد حاولت بوضع العراقيل أمامه، وذلك عن طريق خلق مشاكل داخلية له، أو جرّه إلى نزاعاتٍ تحت مسمّيات شتّى، ومنها الإرهاب.
إعتقد الرئيس الاميركي "جورج بوش" الإبن، بأن "بوتين" سيكون قلقاً من محاصرة روسيا إقتصادياً أو من خلال تحالفات عسكرية، ولكنه عَرِف أن "بوتين" أكثر قلقاً من مشكلة الإرهاب في جواره، فلقد أخذت روسيا ترى في جيرانها المسلمين مصدراً محتملاً لتهديد سياسي وديموغرافي متفجر، كما أن النخبة السياسية الروسية صارت تتأثر بشكل متزايد بالمغريات العرقية والدينية المعادية للاسلام، وفي هذه الظروف، وَجَد الكرملين في أحداث 11 ايلول سنة 2001 فرصة لِجرِّ أميركا للدخول في حرب باسم "الحرب على الارهاب"، مع العلم بأن "بوتين" كان الزعيم الأجنبي الأول الذي اتصل بالبيت الابيض يوم 11 ايلول، ولم يَستطع الإتصال بطائرة البيت الابيض، لذلك تكلَّمت معه مستشارة الأمن القومي "كونداليزا رايس" من مركز عمليات الطوارئ الرئاسي PEOC. وأكد لها أن روسيا لن تَزيد استعدادها العسكري ردّاً على تحرك أميركا على مستوى الوضع الدفاعي 3 "ديفكون ثري"، وهو نوع من حُسن النية، حيث فتحت الضربة الإرهابية الباب للدول التي تخوض صراعاً الى حدٍّ ما مع المسلمين – الذين أتهمونهم بأنهم سبب الإرهاب - سواء أكانت روسيا أم الصين أم الهند، ينبغي النظر إليها الآن على أنها شريكة طبيعية ورئيسية لأميركا.
وتابع "بوتين" بناء روسيا داخلياً ودولياً، وكان يعلم بأن الغرب يسعى للإستفادة من الإرهاب للقضاء على مصالح روسيا في المنطقة، أو حتى إدخال روسيا في مشكلات أمنية.
ففي 5 شباط عام 2003، عندما جعل وزير الخارجية الأميركي "كولن باول" في عرضه في الأمم المتحدة يحاول أن يثبت مدى خطورة الرئيس العراقي صدام حسين، وهذا مما يفرض ضرورة الإطاحة به من دون إبطاء ولا فرص زمنية، وعبثاً كانت المحاولة، إزاء النزعة المشكِّكة لكلٍّ من فرنسا وروسيا.
كانت الإستراتيجية الروسية مبنية على التدخل في أي عمل يَفشل فيه الغرب، من أجل إظهار قدرتها للعالم، وكانت تَفهم تماماً أن العالم يحاول تشتيتها وشرذمتها، لأنهم يخافون من سيطرتها على العالم، وِفق نظرية الجغرافي البريطاني "هالفورد ماكندر Halford Mackinder" التي تقول: أن من يريد السيطرة على العالم فعليه السيطرة على مركز العالم "سنتر لاند" وكانت النظرية ترى، أن مركز العالم هو جبال الأورال الواقعة في روسيا وشمال قازاخستان وتمتد نحو 2400 كم من الشمال الى الجنوب بين اوروبا وآسيا، لذلك كان الجميع يخافون روسيا أولا وأصبحوا يخافون "بوتين" ثانياً لأنه مدافع شرس عن قوة روسيا.
نجح العالم الغربي في إسقاط حكومات ودول من خلال اتهامها بالإرهاب وعندما وَصل الى سورية التي يعرف "بوتين" أنها "الحصن الأخير" له في مياه المتوسط، وأنها العائق أمام زحف التطرف الإسلامي إلى بلاده، تدخَّل في اللأزمة السورية بشكل واضح، حتى وصلت روسيا الى إعلام القوى العالمية الأخرى أن الدخول في حرب للإطاحة بالنظام السياسي في سورية، بقيادة الرئيس "بشار الاسد"، يتطلب أولاً مواجهة روسيا بشكل مباشر، لعلمها بأن هناك تخطيطاً لضرب روسيا عن طريق خنقِها بواسطة الإرهاب، فجاءت تسعى إلى مواجهة هذا المخطط من خلال الدخول في صراع مباشر مع الإرهاب في سورية.
يحتاج الغرب إلى روسيا قبيحة، همجية لكي يمدِّنوها بطريقتهم الخاصة، مهدَّدة بأبعادها الضخمة لكي يُجزِّئوها، غازيةً لكي يُنظِّموا حلفاً ضدها، رجعيةً متفسخةً دينياً لكي يغزوها بالدعاية للإصلاح الديني، ضعيفةً إقتصادياً لكي يُبرِّروا أطماعهم في أراضيها غير المُستثمرة وفي خاماتها أو على الأقل في عقدِ صفقاتٍ تجاريةٍ وأخذِ امتيازاتٍ مربحة لهم، وهذا كله فهمه بوتين.
يقول "جورج بوش" الإبن: إن "فلاديمير بوتين" كان مغروراً في بعض الاحيان وساحراً في أوقات أخرى إلا أنه كان صارماً دوماً.
لذلك يجب أيضا أن نُحب "بوتين" لكي نفهم مواقفه في الداخل الروسي والوسط الدولي، وهو تماهى مع روسيا، فكان بوتين هو روسيا، وعلينا أن نحبهم لكي نفهمهم.
وكما قال الجنرال "ديغول": فرنسا هي أنا، فيجب أن نفهم أن روسيا هي بوتين.
اللهم اشهد اني بلغت
المصدر الميادين