● د . بهجت سليمان [ الحلقة الثانية " 2 من 3 " ]
9▪ من النّتائج المأساويّة الحقيقيّة لهذه الحرب على سورية ، ذلك الجانب المتمثّل ب "الأزمة الاقتصاديّة" التي نشبت متزامنة مع تفاقم زمن الحرب ، و التي تزامنت ، كما أوضحنا ، أعلاه ، مع الأزمة الجوهريّة ، العسكريّة والسّياسيّة ، و التي انسحب عليها "الشّرط الموضوعيّ" ، السّلبيّ في نتائجه السّوريّة ، للتّحالفات ..
عبّرت "الأزمة الاقتصاديّة" عن نفسها ، بخرابات شاملة للإنتاج ، و تراجع معدّلات النّموّ إلى الاتّجاهات السّلبيّة ، و وقوع "البلد" تحت عجز الأداء و عجز القيمة الشّرائيّة للنّقد السّوريّ ، بحيث تجاوز ذلك التّراجع ، في المتوسّط ، عشرات أمثال القيمة النّقديّة الماليّة المباشرة ، في حين أنّه قد تجاوز ذلك المعدّل السّلبيّ إلى عشرات أضعاف على المستوى الاقتصاديّ الوطنيّ ، في مناخ "الخرابات" التّامّة لمعدّلات "القيم" الإنتاجيّة والتّبادليّة و الاستهلاكيّة ، في ظروف دمار البنى التّحتيّة المختلفة للإنتاج و التّمويل و الاستيراد و التّصدير ؛ مع ما رافق كلّ ذلك من أزمة "بطاليّة" مطلقة تجاوزت كلّ مفاهيم البطالة النّسبيّة و المقنّعة .
10▪︎ و في هذه الأجواء بالتّحديد ، نشط "تجّار الحروب" و سماسرة الدّماء و مصّاصو العروق ، ليشكّلوا طبقة منفصلة عن جسد الدّولة و المجتمع ، في عمليّات احتكار و إثراء ، مارست جشعها و وحشيّتها الأخلاقيّة من دون رادع أو وازع ذاتيّ ، و كذلك في ظلّ القصور ، الموضوعيّ و الضّروريّ ، للمحاسبة ، و لو كان من الممكن أن تتدخّل "المحاسبات" بوصفها عاملاً مخفّفاً لحدّة هذه "الأزمة" ، و ذلك بالحدّ من أدوات المستثمرين الاقتصاديين و السّياسيين ، الخاصّة ، التي طفت على سطح المصلحة الوطنيّة و استقلّت كجزيرة غريبة في بحر أمواج التّلاطمات الظّرفيّة المحلّيّة و الإقليميّة و الدّوليّة ، على نحو منظّم و "ذكيّ"(!) ..
في الوقت الذي انضمّ فيه إليهم طبقة وسيطة في المؤسّسة العامّة ، جنحت بصراحة و وقاحة و لؤم ، إلى إقامة الأحلاف المختلفة مع سماسرةالحروب ، فإذا بالمواطن ضحيّة نهائيّة للممارسات الاستثماريّة لطبقة أثرياء الحروب المدعومة مباشرة من قبل طبقة حكومية رسميّة ، شكّلت معها سندان المطرقة ، فيما كانت روح المواطن السوري تقع بين المطرقة والسّندان .
في حين أن المقاومة البشريّة ، تبدو مأثرة تاريخيّة في مواجهة الحرب بأزماتها المختلفة ، كان المواطن العادي وما يزال ، يشهد مواجهات ومعانيات قاسية في العمل لتأمين وسائل الحياة الأساسية ، في مواجهة من يفترض أن يكون ملاذه هرباً من هذه الرّحى التي تدور و تدور ، بينما هي تسحق الضّعيف و تتجنّب القويّ ، و على غير أيّ توقّع أو انتظار .
11▪ انضاف ، كما قلنا و نعيد ، إلى كلّ هذه الظّلمات الموجيّة المعقّدة و المركّبة ، مؤخّراً ، ذلك التّجفيف المتعمّد لموارد الدّخل الوطنيّ ( القوميّ ) ، و بخاصّة موارد الطّاقة التي شكّل جفافها شبه النّهائيّ ضربة اقتصاديّة وسياسيّة تكامليّة مع الأسباب و العوامل التي قطعت مع كلّ إمكانيّة للعلاج .
و من الطّبيعيّ أن تتكلّل جملة الأزمات السّابقة التي خلّفتها "الحرب" ، و غيرها ممّا لا يعتبر طرحه مناسباً .. بأزمة "اجتماعيّة " و " أخلاقيّة " شاملة ، تعكس مدى التّدهور العامّ الذي أوصلتنا إليه الحرب ، فيما ساهمت بعض الجهات الحكومية والإدارية ، ببقيّته الأخرى من تكريس هذه النّتائج ، بواسطة ما تجاهلته عين الملاحظة و المسؤوليّة و الكفّ و الحدّ والكبت و القمع المباشر لمفاعلات هذا الخراب .
و هكذا فقد تجلّت "الأزمة الاجتماعيّة" و "الأخلاقيّة" ، كنتاج عن مجموع تداخل و تراكب مختلف الأزمات ، وكنتيجة لاجتماعها المنسّق ، ذاتيّاً و موضوعيّاً ، بحيث تُظهر النّتائج أوضاعاً كارثيّة حقيقيّة .
و في إطار "السّياسة" ، فإنّ الأزمة الاجتماعيّة و الأخلاقيّة ، إنّما هي أخطر ما في أهداف التّشخيص ، وذلك عندما سنتجاوز الآن ، للضّرورة و المسؤوليّة ، الموانع التّقليديّة للصّراحة و الوضوع ، في إهمال متعمّد لكلّ تحفّظ فكريّ من شأنّه أن يجعل النّقد فارغاً من أيّ مضمون .
12▪ إنّ أوّل جوانب الأزمة الاجتماعيّة الأخلاقيّة ، في إطارها السّياسيّ ، كنتيجة مباشرة للحرب ، هو ذلك الذي يتمثّل بعنوان عريض ، هو فقدان الثّقة ، المتبادل ، بين أطراف مجتمع الحرب ، في ما بين أعضائه الرّئيسيين ، أوّلاً ؛ ثمّ ما بين هذا "المجتمع" ، على ما وصفناه ، و بين "الإدارة الحكومية " السّوريّة ، على ما يُفترض من أنّها موجودة لخدمته بشكل تلقائيّ .
كان وراء إحداث و إظهار هذه الفجوة من ضعف الثّقة بين المواطن و معظم مؤسسات الدّولة ، تلك الممارسات الّلامسؤولة التي أبدتها الحكومات السّوريّة المتوالية في موقفها إزاء المؤسّسة الحكوميّة نفسها ، أوّلاً ؛ ثمّ في موقفها إزاء المجتمع والمواطن ، ثانياً . و حيث كان المواطن العاجز عن التماس حلول مشكلاته في إمكانيّاته المعدومة ، قد انتظر طويلاً وصمد مثل أيّ محارب على خطوط القتال ، لكي يجد لصبره و تضحياته احتراماً و تقديراً عمليّاً و مباشراً ، وصدى في برامج الحكومات و المؤسّسات ؛ كان ما جرى بالنّسبة إلى الحكومات أنها زادت من مظاهر انفصالها الأخلاقيّ عن الدّولة و المجتمع ..
و هكذا ، ليقع القرار الرسميّ ، مرّة أخرى ، و أخرى ، ضحيّة للعجز الموضوعيّ الذي شكّلته جملة من "الذّاتيّات" و "الموضوعيّات" في محيط تلك الأزمات .
[٧:٤٥ ص، ٢٠٢٠/٥/٢٥] اللواء بهجت سليمان: 13▪ هكذا ، كان ذلك مقدّمة لانحلالات اجتماعيّة أخلاقيّة ، و طنيّة ، شاملة ؛ بدأت تتعرّف فيها الحرب ، على ذاتها ، من جديد ؛ بحيث أنّ ما لم تسحقه "الحرب المباشرة" ، تكفّلت به(!) هذه التّفرّديّة في الممارسات العامّة و الأخلاقيّة ، حتّى يُهيّأَ للمتابع ، أنّ سورية تكاد تفقد مجتمعها ، أيضاً ، و هو ما يتجاوز التجارب التاريخيّة في حروب الدّول و المجتمعات ..
و كان ذلك تحصيلاً لأشياء حاصلة ، و لأشياء استحدثتها نتائج الحرب في مجتمع متضعضع روحيّاً ، أثبتت التّجربة أنّه مجتمع كان قيد التّشكّل ، فإذا بالحرب تقضي على الكثير من إنجازاته "الحضاريّة" المشكوك في نجاعتها ، تبعاً للأخلاقيّات القاصرة التي كانت تنتظم "الاجتماع" السّوريّ .
● ثانياً - تصوّرات عمليّة على المعالجات :
14▪ معروف القول المستهلك ، أنّه ليس أسهل من التّنظير . غير أنّ الأحداث في نتائجها قد أبدت أوّل ما أبدت ، ذلك النّقص الهائل في الوعي الوطنيّ ، و هو ما تُسألُ عليه ، أوّلاً ، الأبعاد التّكوينيّة النّظريّة من جانبها السّياسيّ التّاريخيّ ، تلك التي يدّعي حيازتها الكثيرون ، في إطار مشروع الدّولة ، الاجتماعيّ و السّياسيّ .
و حيث يبدو ، اليومَ ، أنّ هذا الأمر قد أصبح وراءنا ؛ بمعنى خاصّ ، هنا ، و هو أنّنا لا نستطيع إحياء الميت أو الأموات .. إلخ ؛ فإنّ من المفيد مقاربة سبل العلاج ، مقاربة ، لا بدّ منها ، و ذلك أوّلاً بفحص قدرات هؤلاء المعنيين بوضع التّصوّرات العمليّة للمواجهة ، إن لم نقل للحلّ ، بما يضمن عدم انحدار البلد إلى كارثة كبرى ، ولكيلا تكون محطّة أخيرة لسورية الأرض و الجغرافيا السّياسيّة ، و التّاريخ المتكالب عليه ، و لسورية الدّولة والمجتمع ، و لسورية "المشروع" !
15▪ إنّ جملة هذه المخاوف تدفع بنا ، أوّلَ قبلَ كلّ شيء.. أن نوجّه النّقد النّظري المترافق بحلول عمليّة ، و لو جزئيّة و نسبيّة ، تتكامل في نتائجها البسيطة و المتواضعة ، بفارق كمونيّ لما تبقّى لنا من ممكنات مدّخرة في مكان ما .. ينبغي استنهاضها و ضمّها إلى "المشروع" العلاجيّ ، بل التّفويض فيه ، و الذي يجب أن لا يُغيّبنا عنه حجم الهدر التّاريخيّ للأمل ، و لا واقع اليأس الذي يحاول ، عاملاً بضراوة و تنظيم ، على أن يمنع كلّ المحاولات الخلّاقة القمينة بالتّجريب ، و لكن تلك التي لا تنطلق من "التّجريب" كمبدأ و فلسفة سياسيّة في العلاج ، بقدر ما تكون فيها "التّجربة" شيئاً جدّيّاً و فعليّاً له أهدافه السّابقة على محاولات " التّجربة " ، في إطار القطع مع كلّ مفهوم لإدارة الأزمات ، في سبيل دعم القرار السّياسيّ الأساسيّ ، الذي هو محلّ إيمان بالممكنات ، بعيداً عن أدوات الفساد و الإفساد المنظّمَين ..
و هذا أمر ممكن ، في رأينا ، بكلّ بساطة هذه الكلمات .
16▪ إنّ الحدّ من الهدر القيميّ الشّامل ( و لا نتحدّث ، هنا ، مثلاً ، على التّزوير و النّفاق و الجشع و الاستئثار ، و السّرقة المباشرة ، و المصالح الشّخصيّة المتعارضة مع مصلحة المؤسّسة و المجتمع ، .. إلخ ) ؛ بما هي "القيم" الماديّة منها و العمليّة ، و النّظريّة منها و النّفسيّة ، جسراً ثابتاً و راسخاً للرّؤية العلاجيّة التي طال انتظار المجتمع و الدّولة لها في فخ "التّجريب" القاتل ، و إدارة "الأزمات" التي مرت بفجائع حقيقيّة في نتائجها اليوميّة الكارثيّة .
17▪ كفانا دغدغة و أحلاماً خرافية عن "الجيوش" الإلكترونيّة و الإعلاميّة و الدّعائيّة التي تسخر من البشر والإنسان السّوريّ ، و تحقق مصالحها الخاصّة و الشّخصيّة على حساب عقل و فهم و حقوق العاقلين الرّاشدين ..
و لقد آن الأوان لجيش حكوميّ مؤسّسيّ تنفيذيّ ، يعمل بصمت ، و مراقب من قبل قادة حقيقيين ، و ليس من قبل إمّعات و هياكل فارغة ، و أطقم أنيقة و عيون زائغة و أدمغة تائهة ، هي اليومَ ، فقط ، تتعلّم دروس الوطنيّة الغائبة فيها، من أجل تسويق نفسها ببعض المحفوظات المستهلكة .
وقد أثبت معظم لمنخرطين في العمل الحكوميّ و العمل الحزبي و حتى العمل الأمنيّ.. بأنهم ليسوا فاعلين مبدعين في ساحات العمل اليوميّ ، التي صارت اليوم بديلاً عن ساحات القتال .
لقد تحوّلت المعركة - و يجب أن نفهم و نتفهّم ذلك - من ساحات النّار الحيّ ، إلى ساحات المعيشة اليومية و العلاج و البناء . إن الجرح الوطنيّ العميق النّازف ما زالت تمصّ دمه "زومبيّات" متغلغلة في الدّولة و المجتمع و بعض المؤسّسات ، التي استحدثت على عجل ، و كأنّها مستوردة من أبعد كوكب مظلم يقع على مسافته هذه من سورية و السّوريين .
■ الحلقة الثالثة والأخيرة " 3 من 3 " غدا