■ لا توجد في المصطلحات الفلسفيّة السّياسيّة ما تُسمّى ” الدّولة المدنيّة ” ، و إنّما هناك ” مجتمع مدنيّ ” في ” دولة علمانيّة ” ■
1▪ أوجد تطوّر الإمبرياليّة العالميّة المعاصر ، بجشعه الواقعيّ و أوهامه غير المعهودة ، شروخاً في العقل العالميّ المعاصر جعل من الكثير من ”المصطلحات” الفارغة ذات دلالات اصطلاحيّة عمليّة ، إلى الدّرجة التي جعلت من العالم غابة من الأفكار التي تتكاثر باستمرار و بوتيرة غير مسبوقة ، أصبح معها واقع الإلمام بها يحتاج إلى المزيد و المزيد من التّفرّغ الخالص للفكر السّياسيّ الذي أصبح ، من جهة ثانيةٍ ، أُلْهِيَةً للثّقافة و المثقّفين الذين انطلتْ عليهم هذه الملهاة التي جعلت المتحكّمين بمصائر البشريّة ، يتفرّغون للسّيطرة الفعليّة عليهم و على ”المفاهيم” و ”العقول” و ”المقدَّرات” و ”العلوم” .. ، إلخ ؛ و باختصار على حاضر و مستقبل الإنسانيّة .
2▪ منذ عصر النّهضة في ( إيطاليا ) ، ثمّ في سائر ( اوربّا ) ، و بغرض انتشار ”الكنيسة” و ”الكثلكة” ، جنباً إلى جنبٍ ، مع انتشار النّهضة الفنّيّة و الجماليّة ”الإيطاليّة” ، أوّلاً ، و التي بدأت أو عاصرت أجمل الّلوحات العالميّة على جدران و أسقف “الكاتدرائيّات” الإيطاليّة الشّهيرة في العالم لأباطرة في ”الرّسم” و ”النّحت” بروح جماليّة حرّة و متحرّرة كما كانت مع ( دافنشي ) ( 1452 - 1519 ) و ( مايكل أنجيلو ) ( 1475 - 1564 ) و ( تيتيان )( 1490 - 1576) ، و غيرهم في ( هولندا ) مثل ( رامبرانت ) ، و في ألمانيا و فرنسا ، حيث اجتاحت ( أوربّا ) روحٌ عملاقة أطلقت حضارتها في ”الأدب” ، في ”النّثر” و في ”الشّعر” ، و ليس آخرها في ”الفكر السّياسيّ” الذي بدأ مع ”الإيطاليّ” ( ماكيافيللي ) ؛ وصولاً إلى ”عصر الأنوار” مع ”البريطانيينّ” ( جون لوك ) و ( توماس هوبز ) ، و ” الفرنسيين ” ( فولتير ) و ( مونتسكيو ) و ( جان جاك روسو ) ، و آخرين لسنا في مجال تعدادهم على الحصر ؛ حيث كان لهم السّبق في التّأسيس لأهمّيّة استخدام ”العقل” في أمور ”الدّنيا” و ”الدّين” ، و تجاوز ”الخرافات” الشّعبيّة التي كانت أن انتشرت في وقت سيطرت فيه ”الكنيسة الكاثوليكيّة” على الفكر و المجتمع و السّياسة و السّاسة و الأباطرة و الملوك .
3▪ قبل ذلك ببضع مئات من السّنين كان ”الإسلام” يمرّ في فجر عظمته مع فلاسفة عقلانيين سبقوا ( أوربّا ) في التّخلّص من التّفكير الخرافيّ الدّينيّ و الدّنيويّ ..
و كان الفارق الأساس بين ”مفكّري الإسلام” و فلاسفته السّياسيين العقليين المبكّرين ، و بين مفكّري الغرب و فلاسفته السّياسيين ، هو أنّ ”سلطات الخلافة الإسلاميّة” غالبا ما كانت تحكم بالموت الجسديّ و الفكريّ على ”العقلانيين” العرب و المسلمين ، فيما رفع ”الغرب” بعدئذ من مقام وقيمة ”أنبيائه” الفكريين ، و لو أنّ الأمور لم تجرِ بهذه السّلاسة كما يمكن للسّذاجة أن تحكم على التّاريخ .
4▪ في القرن السّادس عشر جرى في ( أوربّا ) حدث تاريخيّ فائق الأهمّيّة ، هو ”الإصلاح الدّينيّ” الذي قاده ( مارتن لوثر ) و هو ما عرف بالإصلاح ”البروتستانتيّ” الذي بدأ في شمال ( ألمانيا ) قبل انتشاره ، و الذي انعكس على ”أوربيّة” الكنيسة الإيطاليّة الكاثوليكيّة بفعل عكسيّ ممّا كانت تعمل عليه ، و هو ”العالميّة” أو ”الّلائيكيّة ” ( الشّعبيّة ، أو العامّيّة ) ..
5▪ بحيث أدّى الأمر إلى ما عرف بحروب الدّين تحت شعار ”الحرّيّات الدّينيّة” و ترجمة ”الكتاب المقدّس” من ”الّلاتينيّة” إلى الّلغات ”القوميّة” ، ثمّ بحرب الثّلاثين عاماً ( 1618 - 1648 ) بين ”البروتستانت” و ”الكاثوليك” حيث حصدت ملايين الأرواح في ( ألمانيا ) ( الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة ) و ( بولندا ) و ( إسبانيا ) ، فبرزت دول جديدة في ( أوربا ) ، و منها بشكل أساسيّ ( فرنسا ) ..
فيما تراجعت سلطة ”الكنيسة البابويّة” ، و تمّ الاعتراف ب“البروتستانتيّة” و ”الكالفينيّة” إلى جانب ”الكنيسة الكاثوليكيّة” التّقليديّة ، و ظهرت ”الفكرة القوميّة” في ( أوربّا )
.
6▪هكذا ، ما بين ”العالميّة” الكنسيّة و حروب الدّين و ”الإصلاح الدّينيّ” و ( صلح وستفاليا ) ( 1648 ) ، و الفترة الانتقاليّة ما بين ”عصر النّهضة” و ”عصر الأنوار” ، قطعت ( أوربّا ) مئات من السّنين الصّعبة الدّمويّة الحادّة ، فيما كانت تتبلور في أعماق هذا ”الواقع” آفكارٌ مختلفة تتمحور حول ”الحرّيّة” و ”العدالة الاجتماعيّة” و ”التّحرّر الدّينيّ” و ”حرّيّة المعتقد” و ”حرّيّة التّفكير” و ”الحقّ في استخدام العقل” و ”حقّ التّعلّم” ..
هذا ناهيك عن الحركات الاجتماعيّة و الأفكار الجديدة المطالبة بحقوق ”الإنسان” الأوّليّة من طعام و شراب و سكن و اختيار شكل العيش و حرّيّة الإنسان .
7▪ في إطار النّضالات الاجتماعيّة الجنينيّة الأولى ، و التي امتّدت على مئات السّنين ، ما بين ”عصر النّهضة” و ”عصر الأنوار” ، تكونت فكرة ”المجتمع المدنيّ” ، حيث كانت الفكرة الأولى حوله تتمحور ، حديثاً ، على ”المجموعات الاجتماعيّة - السّياسيّة” التي لا تدخل في الحكومة ( في الدّولة ) ، مشكّلة حالة من حالات ضغط الرّأي العام لتصحيح أو نقد انحرافات الحكومة عن أهدافها العامّة المتمتّلة في خدمة المجتمع الذي هو العنصر الأول من عناصر و مقوّمات الدّولة .
8▪ كانت من أساس مهامّ ما سمّي ”المجتمع المدنيّ” في تطوّر مفهومه في ( أوربّا ) أن يعمل على تكريس ”دولة علمانيّة” جوهرها ”حرّيّة الاعتقاد الدّينيّ” أو ”الإلحاد” ، وفق ما يراه المرء في إطار ضمان ”حرّيّات المعتقد” و ”حرّيّات التّفكير” ..
و على العموم في إطار ”الدّيموقراطيّة الفكريّة” التي تتيح للجميع حرّيات اختيار النّظرة إلى العالم ، بضمان عدم تعدّي الفرد على حقوق الآخرين في حرّيّة الاعتقاد ..
كما بضمان عدم تدخّل ”الدّولة” في هذه ”الحرّيّات” ، بل و في ضمانة ”الدّولة” لجميع مواطنيها ”المساواة” في حرّيّة ”التّديّن” و ”الإلحاد” و ”الاعتقاد” ، من دون تمييز في ”الحقوق” و ”الواجبات” ، في إطار واجبات الدّولة الحديثة ( الحامية ) في حماية حقّ ”الجميع” في ”الاختيار” ..
و هذا هو مضمون ”الدّولة العلمانيّة” الذي ترسّخ مع ما يُسمّى ”الحداثة” التي تقترن ، عادة ، بالثّورة البورجوازيّة الفرنسيّة ( 1789 ) .
9▪ من حيث المبدأ العام ، لا توجد في المصطلحات الفلسفيّة السّياسيّة ما تُسمّى ”الدّولة المدنيّة” ، و إنّما هناك ”مجتمع مدنيّ” في ”دولة علمانيّة” ..
لقد شقّ مصطلح ”الدّولة المدنيّة” طريقه إلى التّداول ”السّياسيّ” ، جرّاء النّزعات الحديثة التي عادت بالمجتمعات في بعض ”الدّول” إلى عصر ”ما قبل الحداثة” ، و التّمييزالدّينيّ و الطّائفيّ و المذهبيّ و المعتقديّ الذي اختفى تقريباً في “الغرب” ، و لو أنّه قد ظهرت هناك ( في الغرب ) تمايزات طبقيّة و سياسيّة ، إلّا أنّ هذا الأمر شيء يخرج عن نطاق هذا الحديث .
10▪ نحن ، إذاً ، أمام ضرورة عصريّة لمجتمع سياسيّ (مدنيّ) ، يكون عابراً للجماعات و الفئات و العصبيّات و التّمييزات الدّينيّة و المذهبيّة و الطّائفيّة ..
و من المفهوم أنّ مجتمعاً كهذا لا يمكن أن ينضجَ خارج ”الدّولة العلمانيّة” التي يتساوى فيها ”الإيمانُ” و ”الإلحاد” ، من دون تفوّق شخص على آخر بسبب معتقده أو دينه أو مذهبه أو طائفته .
● الحلقة الثانية والأخيرة " 2 من 2 " غدا