حتى نفهم مبرّرات السياسات الروسية المتناقضة في المنطقة وأسبابها ، وخصوصاً العلاقة مع إسرائيل ، لا بدّ لنا من أن نعود قليلاً إلى صفحات التاريخ ، ففيها ما يكفينا من الأحداث التي توضح لنا أسباب التناغم الروسي-الإسرائيلي ، رغم تناقضه مع المصالح الروسيّة في سوريا المدعومة من إيران ، وكما هو الحال في التنسيق الروسي ّ- التركيّ منذ آب/أغسطس 2016 .
وهو ما يفسّر كل المعطيات أعلاه في موقف بوتين تجاه إسرائيل وعدم التصدي لاعتداءاتها على سوريا ، بل وحتى إسقاطها الطائرة الروسية قرب اللاذقية في 18 أيلول/سبتمبر 2018 .
لذلم لم يكن هذا الحادث كافياً لإقناع موسكو بضرورة تسليم دمشق صواريخ إس 300 وإس 400 لتساعدها على التصدي للطائرات الإسرائيلية التي تصول وتجول في الأجواء السورية ، بحجة استهداف مواقع حزب الله وإيران ، وهي حليفة لروسيا في سوريا ، لتكون المصالح الروسية مع إسرائيل وتركيا ، هي القاسم المشترك لسياسات بوتين في المنطقة التي دخلها عبر البوابة السورية ، ولولاها لما كان لروسيا موطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط ، ولولاها أيضاً لما حقّق كل هذه المصالح الاستراتيجية في المنطقة .
حيث يشكل اليهود الروس حوالى ربع سكان إسرائيل حالياً ، وهؤلاء هم سر الموقف الروسي تجاه تل أبيب ، فلديهم ثقل كبير جداً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وما زالوا يحملون الجنسية الروسية ، حالهم حال حوالى 500 ألف يهودي يعيشون في روسيا ويتنقلون من وإلى إسرائيل ، وفيها الكثير من رجال الأعمال الكبار ذوي الأصل الروسي ، وهم امتداد لرجال أعمال يهود كبار مؤثرين في روسيا ، والبعض منهم من أصول أذربيجانية وأوزبكستانية ، ويبدو واضحاً أن بوتين لا يريد أن يقطع علاقاته معهم جميعاً .
بوتين الآن في مصالحة حساسة وذكية مع يهود إسرائيل لأنه لا يريد أن يخسر إسرائيل بثقلها ، ودور منظمات اللوبي اليهودي في أميركا ، في ظل غياب عنصر التوازن العربي ، الذي لو كان موجوداً لساعد موسكو في مواجهة هذه المنظمات ، كما هو الحال في الموقف الروسي مع تركيا ، التي تمتلك موسكو علاقات وحسابات استراتيجية مهمة معها ، ولا يمكن التضحية بها من أجل أي بلد عربي على انفراد .
تركيا ، حقيقة مِثلها مثل إيران ، لا ترتفع كقوة إقليمية إلا بخفض مقام إسرائيل ، وبه فقط تصبحان عُظمَيين إقليمياً لا عاديتين ، إلا أنّ إشغال تركيا نفسها في متاهةٍ سوريةٍ من صنع يديها ، وبخطايا حساب أحمق منذ خريف 2011 ، قد كفّ قدرتها على أن تكون وازنة كفايةً قبالة إسرائيل فلسطينياً وما تحتاج إليه هو أن تدرك ، أولويّة خفض مكانة إسرائيل ، الباقية في كواليس الاحداث والدائمة حضورا بالسياسة الروسية ، ومن الصعب جداً التوفيق بين مصالحهم المتناقضة بكلّ أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة ، ولكن الأهم العسكريّة والأمنيّة والاستراتيجيّة
ولولاها أيضاً لما حقّق كل هذه المصالح الاستراتيجية إقليمياً ودولياً في العلاقة المتشابكة مع الرئيس إردوغان ، والأخير ، حقق معظم أهدافه في سوريا بضوء أخضر روسي ، على الأقل حتى الآن ، وهو ما كان سبباً للعديد من التساؤلات والانتقادات التي حملت موسكو مسؤولية العديد من سلبيات الواقع السوري ، بانعكاساته على الضغوط الدولية التي تستهدف الدور والتواجد الإيراني في سوريا ، بحجة أن هذا التواجد يستهدف أمن إسرائيل التي لا يريد أحد ، بمن فيهم أنظمة الخليج ، أن يتذكروا أنها ، أي إسرائيل ، وليست إيران أو حزب الله ، تحتل أراضي سوريا التي تآمر عليها الجميع إقليمياً ودولياً ، فتصدّت لهم روسيا في جميع المحافل والمجالات ..
إدراكاً للدور المركزي الذي تلعبه روسيا في المنطقة ، خاصة في سورية ، كثف نتنياهو المكالمات الهاتفية والزيارات إلى موسكو في السنوات الأخيرة ، صحيح أن هذه الجهود لم تكن ناجحة دائما ً، لكنها مكنت سلاح الجو الإسرائيلي من القيام بأنشطة في المجالين الجويين اللبناني والسوري .
لا شيء إقليمياً ودولياً تغير حتى تغير واشنطن مقاربتها المتضمنة في صفقة القرن ، فما زال رهان واشنطن منصباً على عودة الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات مقابل عرض له ، فكرة العرض المقابل ، ليست سوى محاولة لاستدراج الفلسطينيين لقبول تقاسم الضفة الغربية مع إسرائيل ، بعد أن قبلت قيادتهم في أوسلو فكرة تقاسم فلسطين التاريخية معها .
حيث الفرصة مكونة من بضعة أشهر ، للفلسطينيين : فالمؤسسة الأمنية العسكرية لإسرائيل تخشى وتحذر من نتائج ضم أراض جديدة ، ومحميات مصر والخليج تتوسّل من ترامب ، أن يتمهّل في الإذن بالضم ّ، ومنظومة الأمن القومي الأميركي تعارض وتُنذر ، في وقت اليهودية الأميركية منشرخة نصفين ، أحدهما معارض ، والأردن يتحسّس رقبته ، أوروبا في حيرة رافضة ، ونقطة البداية هي عند نخب كلّ فلسطين ، فإن التقت على قاسم مشترك أدنى ، من دحر الاحتلال واستعادة الضفة ، وفق برنامج عملاني .
لذلك ، يدرك بومبيو جيدًا أن هناك ورقتين أساسيتين يمكن أن تنقذا ترامب من خسارة الانتخابات المقبلة ، وتحويل الأنظار عن الفشل الداخلي :
الأولى : تشجيع ، وتسريع ضم المستوطنات وغور الأردن لإرضاء اللوبي اليهودي في واشنطن .
الثانية : افتعال حرب محدودة مع إيران لاستعادة الهيبة الأمريكية . وهو ما اشرنا اليه في أن الشرق الاوسط واقع وحقيقة لمصالح مطلوب حمايتها ، واسترتيجيات تعمل من خلال الأقطاب وحلفائهم في المنطقة والعالم ، ومازالت المنطقة بكاملها في مهب الريح والمجهول ، واقع وحقيقة لايدركها الكثيرين ....