بين الانتقادات للمعالجة الأمريكية لتفشي وباء كورونا داخل الولايات المتحدة، وإبراز الدور الأمريكي الأخير في احتواء أزمة الطاقة وأسعار النفط في ظل تفشي الوباء مصير أمريكا على المحك
المؤكد أن هناك إشكالية حقيقية في مقدرة واشنطن على اختراق الستار الحديدي الجديد، الذي هو صيني في هذه الحقبة التاريخية، وليس سوفياتياً. كان ذلك قبل ظهور أزمة كورونا، ومعها ازداد الوضع ضراوة؛ فلم تستطع ست عشرة وكالة استخبارية الحصول على أي معلومات دقيقة حول سبب تفشي الفيروس السريع، سواء في الصين، أو حتى في الداخل الإيراني، ولا يتوقف الفشل المخابراتي الأمريكي على الصين وإيران، وإنما يمتد كذلك إلى كوريا الشمالية وروسيا".
الرئيس الأمريكي لم يأخذ بالجدية المطلوبة مواجهة وباء كورونا، حتى أن جوقة الإعلاميين المحيطين به قد اعتبروا بأن هذا الفيروس خدعة إعلامية ليبرالية، والذي على أساسه وافق ترامب على استخدام دواء الملاريا لعلاج هذا الوباء، وفي ذات السياق فقد واجه الرئيس انتقادات كثيرة، خاصة من الديمقراطيين وعلى رأسهم نانسي بيلوسي، باتهامها للرئيس ترامب بانتهاجه سياسات متخبطة، واتهامه بالفشل والكذب تجاه التعامل مع وباء كورونا.. الكثيرون في أمريكا والعالم لم يكن يتوقع بأن أمريكا بهذا الضعف، في البنيات التحتية، أو أنها غير جاهزة حتى بالأقنعة الواقية على أقل تقدير ، فحرب الكورونا العالمية رسخت أُسس الدولة العظمى الجديدة، أي الصين، وتلمح إلى أفول نجم الولايات المتحدة الأمريكية بالأفول .
يبدو أن الربيع الأمريكي سيكون له نصيب في الفترة القادمة، فهناك اعتراض داخل الإدارة الأمريكية بشأن قرارات ترامب التي توصف بأنها متسرعة ولا تدرك طبيعة الأمور، أو بالأحرى لا تخدم مصالح حزبه الجمهوري وتنتهك مسلمات الإدارة الأمريكية في خلق الأزمات التي تكسب مصانعها التريليونات، وأن دونالد ترامب ذو العقلية الاقتصادية يرى أن الحروب ليست لصالح أمريكا ولا لشعبها، وتناسى أن السياسة الأمريكية قائمة على بسط النفوذ والتحكم بمصير مخازن الطاقة بالعالم، وهذا الأمر قد يتسبب في ظهور روسيا من جديد على الساحة كقوة عظمى عائدة من بعد سقوط جدار برلين.
والتساؤل المهم، هل سيشهد البيت الأبيض ربيعاً يطيح بطموحات ترامب في ولاية ثانية؟ والحقيقة نحن نرى أن الرئيس ترامب لن يكون باللقمة السائغة لدى الكونغرس الأمريكي أو قوى الضغط، وأن قراراته ستصبح واقعاً ملموساً، ولن يتراجع عنها، وسيقنع جميع الأطراف بها، أو سيصل لمرحلة تسوية مع حزبه، وأن الانقلاب في البيت الأبيض قد يتحقق في مرحلة متقدمة ولكن ليس الآن.
«ترامب» جاء ومعه أسرته الحاكمة وأصدقاؤه مختلفاً عن أي رئيس سابق لأمريكا.. وكأنه يشعر بأنه ملك -على نحو ما كان عليه وضعه فى مؤسسة أعماله الخاصة- وليس رئيساً للولايات المتحدة.. فأسلوبه قائم على سياسة العقاب لمن يعاديه والثواب لمن يلتف حوله.. وقد يكون ذلك مقبولاً عندما تكون رجلاً للأعمال، أما كرئيس للبلاد فليس هناك سوى خط واحد وهو تقبل الجميع اختلفوا معك أم اتفقوا.. لقد جاء «ترامب» بأصدقائه من الأغنياء وكل من كان له بعض من الفضل فى فوزه بالرئاسة الانتخابية ليعادى شعبه..
وتحدث «ترامب» فى خطابه عن أمريكا الموحدة واستشهد بما جاء فى الكتاب المقدس «ما أجمل أن يعيش شعب الله معاً فى اتحاد». كلام جميل لو كانت سياسته فعلاً تهدف لتوحيد أمريكا.. ولكن أي اتحاد هذا وأنت تهدد الأقليات وتغرس الضغائن فى قلوب الناس؟ وكان هناك تقليد متكرر بأن يضم احتفال التنصيب الرسمي ممثلين للكنائس، واليهود، والمسلمين.. ولكنه رفض أن يكون هناك إمام مسلم فى احتفالية تنصيبه.. وتحدث عن «الإرهاب الإسلامي». كما يحلو له أن يسميه وهى سقطة تاريخية وأيديولوجية.
الرئيس الامريكي دونالد ترامب نموذجاً صارخاً للسياسي الذي انحاز إلى مصالحه الشخصية على حساب مصالح الولايات المتحدة العليا وقد تم اتهامه رسميا بذلك من قبل مجلس النواب ذات الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس وتمت محاكمته أمام مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون الذي ينتمي إليهم ترامب فبرأوه.
يدرك الجمهوريون قبل غيرهم أن ترامب قد انتهك الدستور وارتكب تجاوزات ولكنه يظل ينتمي إليهم حزبياً واستمراره رئيسا يعني بقاء الحزب الجمهوري مسيطراً في البيت الابيض.
ولكن هذا التعصب الحزبي الأعمى لم يمنع بعض الجمهوريين من التحيز لمصالح الولايات المتحدة, فالسيناتور الجمهوري ميت رومني صوت ضد ترامب قائلاً إنه انتهك الدستور ويستحق العزل, وهذا الموقف الاستثنائي للسناتور رومني ذكر بموقف سيناتور جمهوري آخر, هو السيناتور الجمهوري البارز جون ماكين الذي كتب في وصيته الأخيرة قبل وفاته عام 2017 محذراً الامريكيين من التخندق خلف أسوار عرقية وقبليات سياسية, مما فسره معظم المراقبين من أنه توبيخ للرئيس ترامب وشعاراته التي عمقت الانقسام بين الأمريكيين وخصوصا مواقفه حول بعض السياسيات الداخلية كقضايا السلاح والحقوق المدنية والأقليات وبعض القضايا الخارجية كالسياسات الاقتصادية الحمائية والتواجد الأمريكي في الخارج والتي تراها أستاذة العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن اليزابيث أنكر أنها هزت أركان النظام الديمقراطي الامريكي, وتعمق الهوة بين الحزبين الرئيسيين الذين يسيطران على نظام الحكم والحياة السياسية في الولايات المتحدة ويمثلان غالبية الشعب الأمريكي, حيث أخذ الحزب الجمهوري يتجه بشكل حثيث نحو اليمين في حين يسير الحزب الديمقراطي بوتيرة متزايدة نحو اليسار, وهذا قد يؤدي الى تقويض أهم عوامل قوة الولايات المتحدة أكبر من أي خطر خارجي قد تواجه البلاد.
لم يتورع دونالد ترامب في التصعيد ضد ما أسماهم خصومه, وهدد صراحة أنه قد يذهب بعيدا في تلك المواجهة بل صرح غير مرة بأن من يعارضونه سياسيا (من المسؤولين الاميركيين أو حتى الإعلاميين) بأنهم "أعداء"، وأما الجماهير التي تتظاهر سلميا ضد سياساته فوصفهم "بالرعاع" بحسب زعمه، وهذا ليس مجرد خطاب شعبوي انتخابي لحشد وتعبئة أنصاره, بل تحريض ممجوج لشريحة من الشعب ضد شريحة أخرى, مما قد يترتب عليه نتائج كارثية إذا ما أخذنا في الحسبان أن المجتمع الأمريكي مسلح حتى أذنيه حيث أنه من السهل جدا على أي انسان الحصول على السلاح في الولايات المتحدة, وكذاك وصل الأمر الى انقسام في وسائل الإعلام المؤيدة لهذا الطرف وتلك المعارضة لذاك, لدرجة أن بعضها أصبح يطلق صفة التخوين على البعض الآخر.
رغم خطورة تلك الأزمة التي أشرنا اليها، إلا أنها ليست الوحيدة التي تعاني منها الولايات المتحدة وتهدد مستقبلها وحتى وجودها، فهناك مشكلات لا تقل خطورة تشكل خطر حقيقي عليها.
كان التنوع العرقي والإثني في الولايات المتحدة ولفترة طويلة يمثل عامل قوة ومنعة للمجتمع الامريكي والتعدد الثقافي يعلب دوراً هاماً في إثراء الحياة الامريكية ورفدها بالخبرات والمهارات والمعارف من كل حدب وصوب مما كان له أثر كبير في تقدمها وازهارها، كما كان حاجزا منيعا لاحتواء أي مخاطر وأزمات قد تمر بها.
حاليا، أمسى هذا التنوع الديموغرافي مصدر قلق حقيقي، حيث يرى مختصو علم الاجتماع أن عملية الجمع بين مئات الملايين من البشر ينتمون لخلفيات عرقية مختلفة على أساس المنشأ والدين والعرق في نظام حكم واحد وإنشاء أحزاب سياسية على تلك الأسس هو أمر تكتنفه الكثير من المخاطر، وخصوصا في ضوء الروح العنصرية المخيفة التي اصبحت تسود المجتمع الامريكي في هذا العهد غير الميمون.
وذلك لأن الخريطة الديموغرافية للولايات المتحدة الأمريكية اليوم اختلفت كثيرا عنها في القرن الماضي، فقد ازداد عدد المواطنين الامريكيين من أصول لاتينية بصورة كبيرة, وايضا توحد المواطنون الامريكيون من ذوي الأصول الإفريقية بعدما ازداد عددهم بصورة ملفتة وكذلك الامريكيون من اصول اسيوية، مما يشير الى أن تلك الأقليات ستصبح أغلبية في المستقبل غير البعيد وستأتي اللحظة التي ستصبح فيها أقليات غير بيضاء تهيمن على المساحة الأكبر من الخريطة الديمغرافية الأمريكية وحتى الجغرافية.
تخطى اليوم عدد الامريكيين من أصول لاتينية بما فيهم المتحدثين باللغة الإسبانية والبرتغالية حاجز المئة مليون نسمة، وعدد الامريكيين من أصول أفريقية تجاوز الخمسين مليون نسمة وبلغ عدد الامريكيين من أصول آسيوية حوالي 25 مليون في حين يصل عدد الامريكيين من أصول أوروبية (البيض) الى حوالي 225 مليونا.
لقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تمر بأزمة داخلية خطيرة، يرى الكثير من المراقبين أنها قد تؤدي إلى انهيار تماسك النسيج الاجتماعي مما قد ينتج عنه تصدع في البنيان التنظيمي الداخلي وبالضرورة سينعكس ذلك على كافة مرافق الدولة بما فيها السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية مما سيؤثر على هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على السياسة الدولية ويهدد بفقدانها لمكانة القوة الأعظم في العالم.