حنان الموسوي / مجلة بقية الله
- "بلّوط! ألم تمت يا رجل؟! متْ وأرِحنا منك".
- "أنا يا صديقي لا أموت، ستموتون جميعاً وأبقى حيّاً".
هنا وقف الزمان، وبدأ حسن حياةً أخرى رأى فيها بعين الله كلّ ما أصابه جميلاً. لم يكن موته السريريّ مدّة شهرٍ ونصف حقيقة صدّقها الجميع، لكن وحدها آمنت بأنّه سيعود مزداناً بالحياة، يعتريه لون النقاء كقلبه الأبيض الناصع، جميعهم أقاموا مراسم العزاء وهيّؤوا لتشييعه إلّاها.
•خطّ النور
كان قد انطلق حسن إلى عمله في منطقة "جربا" السوريّة، التحق برفاق الجهاد في خطّ النور المقدّس دفاعاً عن العقيلة زينب عليها السلام، أتمّ واجبه الموكَلَ إليه، لكنّه ألحّ على مسؤوله أن يوليه مهمّة إضافيّة، فوقت الفراغ يؤلمه، دائماً يريده مليئاً بالعمل، أثمر إصراره الموافقة على مساندته لفريقٍ آخر في منطقة أخرى تُدعى "المليحة" في الغوطة الشرقيّة السوريّة.
•أعتمت الشاشة
كانت فرحته لا توصف، نشرها بين رفاقه قبل ذهابه، غادرهم والسعادة تلوح على محيّاه. فجأةً، مرّت أحداث حياته أمام عينيه وصُبّت على قلبه صبّاً، مع سقوط قذيفة فوق رأسه، شقّت جمجمته حتّى بان جزء من دماغه، وأعتمت الشاشة عن باقي الأحداث التي جرت لاحقاً وكأنّها لم تكن.
•الشهادة: الهدف الأسمى
هـــــو الطالب المجتهد الذي اجتاز السنة الأولى في اختصاص إدارة الأعمال بين كدٍّ وعناء أيّام الدراسة وبين دورات تأهيليّة خضع لها أيّام الإجازة ليطوّر نفسه عسكريّاً، قارئ القرآن الكريم الذي نسج علاقة وطيدة مع كلِّ آية من آياته المباركة حتّى غدا جلُّ حديثه يتمحور حوله، عاشق الإمام الحسين عليه السلام وقارئ عزائه والمواسي له بشلّالٍ من دماءٍ وتسليم بالقضاء، المتوكّل على الله الذاكر له، هدفه الأسمى هو الشهادة في سبيل الله.
•الألم الشهيّ
بعزيمةٍ فريدةٍ أمضى سنينَ من الألمِ الشهيّ دون تذمّر، فالصبر يوجع غالباً. ذكرياته متفاوتةٌ بين عمليّات جراحيّة عدّة لزرع عظام في جمجمته، أُولاها كانت في المستشفى الميدانيّ في سوريا، والبقيّة خضع لها في مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وظلّ يتنقّل بين منزله الكائن في محلّة بئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبيّة وبين مؤسّسة الجرحى لتلقّيه العلاج؛ كي يستعيد قدرته على السير والنطق مجدّداً.
أمّا الجَلَد، فهو القاسم المشترك في كلّ وقت، تلك الأرجحة بين الموت والحياة طيلة ثلاثة أشهر حين كان جرحه ساخناً لم تترك في ذكرياته أثراً، بل انعكست تعلّقاً بالله؛ إذ إنّه برحمته لم يُبق ذاكرته متأرجحة في ذهنه وإلّا لآذته.
•رحلة العناء
رحلة الوجع من شللٍ نصفيٍّ إلى فقدان النطق إلى الحرمان من أبسط الأمنيّات، كمتابعة الدراسة الجامعيّة أو الحوزويّة أو قيادة السيارة، لم تثنِه عن شكر الله -ففي عقيدة حسن الله هو "القيّوم الذي لا ينام"، يسمع مناجاة عباده في كلِّ مكانٍ وزمان-، بل زادت من عزمه وتصميمه على العودة للجهاد، طالما أنّ أطرافه اليمنى سليمة، وسنيَّ عمره التسع عشرة ما زالت متوهّجة، والعمر برعمٌ في طورِ الإشراق، فما المانع من ذلك؟ إلّا أنّ مسعاه كان صعب المنال حتّى وإن أضيف إلى عمره أعوامٌ أخرى بعد إصابة مكلّلة بأريج الورد وحُسن الظنّ بالله.
•الشوق إلى نعمة الصوت الحنون
كم يحلو ترنيمه للأذان والإقامة، وكم يخشع القلب لترتيله للقرآن. ولأنَّ الإصرار مليءٌ به، كان علاج فقدان النطق هو القرآن "فإنّ فيه الشفاء"، وكلّ حرفٍ من أحرفه المباركة قذف النور في روح حسن وزاد من بصيرته، فشرع يكتب الآيات والسور التي تُعرض على التلفاز أمامه ويحاول ترديدها، وبعد وقتٍ طويل ومجهودٍ كبير بُذِل، انصبّ يقرأ موسوعة "الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل" للعلّامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، وببركة القرآن صدح صوته مجدّداً، وكانت المعجزة كما حياته بذاتها.
•المال والبنون زينة الحياة الدنيا
لم تكن الإصابة عائقاً يحول بين حسن والحياة، بل كانت باباً للرحمة والراحة النفسيّة والماديّة، وقد أفاض الله عليه بعد هذا الامتحان بكثيرٍ من النِعم كان قد حُرِم منها قبلاً. أمّا طموحه فأن يقترن بذات دينٍ وأن يُرزق بأطفالٍ يُنشئهم على حبِّ محمدٍ وآل محمدٍ عليهم السلام، وأن تجري الولاية مجرى الدماء في عروقهم، يأخذ من لبّه كلّ مأخذ.
•صبرٌ ومواساة
نسيج الغربة المظلم الذي لفَّ أيّام حسن عند إصابته، انعزاله عن الدنيا، والغيبوبة التي عاشها، ذلك كلّه بدّده التعلّق بالإمام الحسين عليه السلام، فجرحه لا يُذكر إن ذُكرت جراح الشهيد الغريب، إنّما هو وسام فخرٍ ناله وعائلته كرامةً من الله، وقد أدرك الفرق بين من يواسي الإمام الحسين وأخاه أبا الفضل عليهما السلام بالقول ومن يواسيهما بالفعل، وقد أصاب المعنى، كما كلُّ فردٍ من أهله بعد أن عاشوا بإصابته مشهداً من مشاهد كربلاء التي لا تُحصى، فكان الذِكر الدائم على ثغر أمّه التي تتوسّل خلاله بأبي الفضل عليه السلام: "يا كاشف الكرب عن وجه أخيك الحسين عليه السلام اكشف الكرب عن ولدي حسن بحقِّ أخيك الحسين عليه السلام،"، "صبراً جميلاً وبالله المستعان"، وكان الله نِعمَ المولى ونِعم الكفيل.
•خدّاعة غرور
هي الدنيا تصرع كلّ من يركن إليها، والإقبال عليها يعني خسارة الآخرة، وأن يكون المرء مع إبليس في قعر جهنم، إبليس ذاك الذي ما توانى لحظة عن المحاولة في إثباط عزيمته وإحباطه وكسر إرادة الحياة لديه، ولكنّه كان أقوى منه، فهزمه، لذلك فالهدف الأسمى هو نيل الآخرة، والشهادة هي غاية الأمنيّات.
•عاشق الأمين
يشكر الله أنّنا خُلقنا في زمن فيه سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، "شرف لنا أن نُنادى باسمه، أنّنا في زمانه وأنّنا رجاله، والعهد له باستكمال المسير ما دام في خافقي نبض"، وإن كانت عظام جمجمة حسن تكبر كلّ سنة بجراحةٍ جديدة لتلتئم، وسيل الوجع مستمّراً، وخطواته لا تتّسم بالثبات، ورفيقه الدائم دواء مع باقةٍ من الكتب تُنسيه نصف آلام البشريّة المجتمعة في بئر رأسه، سيعود إلى سوح الشرف والمقاومة لأجل عينيك يا سيّدنا، "والأمنيّةُ ستتحقّق يوماً وأكون شهيداً في سبيل الله".
هويّة الجريح:
الاسم: حسن علي بلّوط (كرّار).
تاريخ الولادة: 9/7/1994م.
مكان الإصابة وتاريخها:
منطقة المليحة السوريّة - 5/5/2014م.
نوع الإصابة: في الرأس.