في فلسطين نبض كامن يستعيد في كل لحظة خفقانه المسموع.. يقف المحتل يتساءل: ها أنتم ثانية، ألم أقتلكم؟.. فيرد المناضلون: نعم قتلتنا ونسينا أن نموت".
يومًا بعد يوم، يجسّد فلسطينيون، ما وصفته اللبنانية فاطمة التريكي، عن مقاومة باسلة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتحديدًا يتعلق الحديث هنا عن أحمد جرار، الذي تزعم المقاومة والمدافعين بها ومن يعتبرونها أملًا في دحر الاحتلال.
في التاسع من يناير الماضي، لم يكن جديدًا على المسامع أنّ شابًا فلسطينيًّا نفّذ عملية ضد مستوطن إسرائيلي، يُدعى أزرائيل شيفح، لكنّ المذهل هو ما حدث بعدها، طوال 29 يومًا حتى استشهاده، الثلاثاء الماضي.
من هو؟
وُلد أحمد نصر جرار عام 1994 في بلدة برقين الواقعة غرب مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، وتخرج من الجامعة بتخصص إدارة المستشفيات.
ووالده هو القائد في كتائب عز الدين القسام نصر جرار، الذي استشهد عام 2002، تاركًا خلفه مسيرة من النضال تخللتها مطاردات مكثفة ومحاولات فاشلة لاغتياله، وعائلة مكونة من صبيين وفتاة، تقودها امرأة، وهي والدة أحمد "ختام".
بعد بلوغه سن العشرين، كان يُعرف عن "أحمد" أنّه شخص كتوم هادئ، وشارك في رحلات شبابية تظهر مرحه وحبه، وبخاصةً في قيادة السيارات، ويبث مقاطع تحركاته عبر "السوشيال ميديا"، وأنّ نشاطه يركّز على العمل التجاري فقط، لكنّه انتقل بعد ذلك إلى مقاومة الاحتلال.
يوم البطولة
"اليوم الموعود " هو التاسع من يناير الماضي، عندما قُتل المستوطن أزرائيل شيفح قرب البؤرة الاستيطانية "حفات جلعاد" في عملية فدائية فلسطينية أعجزت الاحتلال في البداية عن حل اللغز، حتى مسار انسحاب منفذي العملية.
وبعد أن أنهى جرار تلك العملية، عاد يمارس حياته الطبيعية دون استعراض لما حقق، يقوم بحياكة القماش ويسمع الأخبار التي يتداولها الناس بكل بهدوء، لكن حين كشف أمر السيارة المحترقة التي استخدمت في العملية، وكانت بمثابة طرف الخيط الذي أوصل الاحتلال إلى معرفة هوية منفذيها، استعد جرار للحظة المواجهة.
الاحتلال يبحث عن البطل
بعد العملية بتسعة أيام، وتحديدًا في "18 يناير " حاصرت قوات الاحتلال منزله في اقتحام مفاجئ، لكنّ "البطل المقاوِم" باغت وحدات الاحتلال الخاصة، وتمكن من النجاة، إلا أنّ العملية أدّت إلى استشهاد قريبه أحمد إسماعيل جرار.
واصلت قوات الاحتلال الاقتحامات أكثر من مرة في اليوم الواحد بمسقط رأس جرار "بورقين"، وخلال هذه الاقتحامات كانت تعتقل أقارب له، وأي شخص له صلة بجرار؛ على أمل الحصول على أي معلومة تقود إلى مخبئه.
تعرّض منزل "البطل" إلى اقتحام ثانٍ، وتمّ تخريب محتوياته، مستخدمًا الكلاب البوليسية.
المحاولة الثالثة كانت عند اقتحام قوات كبيرة من جيش الاحتلال لمنزل مواطن داخل بلدة الكفير، وهي محاولة خربت الكثير من بيوت الفلسطينيين، لكنها باءت بالفشل أيضًا.
السادس من فبراير الجاري كان هو موعد الاقتحام الرابع، حين وصلت قوات الاحتلال إلى بيت مهجور منذ عقد، مكون من غرفتين في بلدة اليامون غرب جنين شمالي الضفة، باغتت فيه جرار بنيران كثيفة ومباشرة.
هنا استشهد البطل "جرار"، وقد كان يحمل بندقية من نوع "إم 16" وقنابل يدوية استعد بها لصد مهاجميه.
أقرّ الاحتلال أنّ مطاردة "جرار" تعتبر من أكثر عمليات الملاحقة المكثفة التي سجلت لمطارد فلسطيني في الضفة الغربية في السنوات الأخيرة، وأنّ جرار تحول إلى كابوس مزعج لدولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية.
صحيفة "إسرائيل هيم"، قالت في تقريرٍ: "لسوء الطالع، وتحت ستار الذكاء المعيب، والغارات عديمة الفائدة من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية، استطاع جرار أن يجعل من نفسه بطلًا بين الجمهور الفلسطيني".
وأضافت أنّ "جرار تحوّل إلى أسطورة منذ اللحظة الأولى لتنفيذ عملية قتل الحاخام والانسحاب بكل سهولة ونجاح، وأثبت حنكة أمنية في التغلب على الخطط الاستخبارية الإسرائيلية".
وذكرت: "أصبح جرار في الشارع الفلسطيني وبين الشباب أسطورة حية، بطلًا حقيقيًّا تغلّب وخدع الجيش مرة تلو الأخرى، وتغلب على مقاتلي الوحدات الخاصة والجرافات، وبالأخص المعلومات".
وتابعت: "لا يستطيع أي إسرائيلي أن ينكر حقيقة أن جرار تفوق على إسرائيل في حرب الأدمغة، من خلال الفشل المتكرر في الميدان والناجم عن فشل استخباراتي".
ماذا بعد الاغتيال؟
جيش الاحتلال انصرف بعد ساعات من المواجهة حاملًا جثمان جرار، فيما عجّل الفلسطينيون لتفقد المكان الذي ارتقى فيه شهيدًا، فوجدوا القليل من الخبز والزعتر وزجاجة ماء، فيما تركت ملابسه مضرجة بالدماء.
وُجد أيضًا مصحفا كُتب على صفحته الأولى "إلى ابني العزيز أحمد"، مع "وصية" كتبها جرار بخط اليد الذي عرفه شقيقه "صهيب".
هذه الحالة من المقاومة التي تعيد إلى الأذهان، تكتيكات لم تستخدم منذ زمن بعيد، لكن ما بعدها كشف رعبًا كبيرًا أصاب الاحتلال إلى حدٍ بعيد، حاولوا من خلاله ليس فقط اغتيال "جرار" بل وأد الظاهرة من مهدها.
الدليل على ذلك "هجمات" شنّها الاحتلال استهدفت المنازل، مع هدم بعضها بالجرافات العسكرية، فضلًا عن تنفيذ عمليات تفتيش واسعة ومتواصلة طالت الجبال والكهوف والأراضي الزراعية، واستمرت الاقتحامات عدة أيام منتهية باعتقال العديد من الفلسطينيين.
الاحتلال يعلق
توالت ردود أفعال الاحتلال التي أعقبت عملية اغتيال "جرار"، فقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو: "أهنئ الأجهزة الأمنية على العملية الحازمة التي قامت بها هذه الليلة لإلقاء القبض على الإرهابي، والتي أدت إلى مقتله".
نتنياهو نفسه كان قد صرح قبل العملية: "إسرائيل لن يهدأ لها بال حتى يتم إلقاء القبض على أحمد نصر جرار وعلى من ساعده".
وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان علق في سياق مشابه: "أهنئ قوات الأمن الإسرائيلية وأجهزة الشاباك ووحدة مكافحة الإرهاب على العملية الناجحة، واتضح أن الأمر لم يكن سوى مسألة وقت قبل أن نصل إلى زعيم الخلية الذي قتل الحاخام رازيئيل شيفح".
وزير الأمن الداخلي جلعاد إردان قال: "أحيي نيابة عن جميع مواطني إسرائيل الشرطة الخاصة التي قامت بتصفية الإرهابي الدموي، رسالتنا واضحة، وسنصل إلى القتلة أينما كانوا يختبئون، حتى الإرهابي الذي قتل إيتمار بن غال سنصفي الحساب معه".
جرار والاحتلال.. شاب vs جيش احتلال
بدا من احتفال دوائر الاحتلال بهذا الاغتيال الحجم الكبير الذي مثّله "الشهيد البطل" من تحديات كبيرة، تعيد إلى الأذهان صورًا من بطولات، علت من شأن المقاومة.
النشطاء الفلسطينيون أطلقوا على الشهيد جرار "أرطغرل فلسطين"، و"الأسطورة"، و"الشبح"، و"المطلوب رقم واحد"، و"شاب يقاوم جيشًا".
تقول الكاتبة ميرفت عوف إنّ "جرار" تحوّل إلى بطل، وأصبح رمزًا في مرحلة أكل فيها التنسيق الأمني من كتف الفلسطينيين كثيرًا، وكذلك أيقونة للمقاومة الفلسطينية في وقت انعدم فيه الأمل بالمسار السياسي مع الاحتلال، وأجمع الفلسطينيون في كل مكان على إكبار هذا الشاب صغير السن.
وتضيف: "بالنسبة لإسرائيل، فقد تمكن جرار من صنع نموذج تخشاه، حين أصبح مصدر إلهام لشباب فلسطيني، لذلك لم يتردد المئات من الشبان في بلدة برقين عن خوض مواجهات دامية وعنيفة على إيقاع الجرافات والآليات أثناء ملاحقة جرار، وحتى بعد استشهاده".
ما فعله الشهيد أحمد جرار، وسبقه في ذلك كثيرون، لا سيّما الطفلة عهد التميمي المعتقلة في سجون الاحتلال، وجنى جهاد أصغر صحفية في العالم، توثّق جرائم الاحتلال، وصنّفت على أنّها الخطر الأكبر على الاحتلال في المرحلة المقبلة، كل ذلك بات يعتبر عن الشعوب مثلًا أعلى يتوجب أن يتخذه القادة العرب، الذي يقتصر دورهم على بيانات شجب وإدانة منذ سنوات عديدة كما يرى محللون.
وربما تواجه ردود الفعل هذه جملة انتقادات وتقليل من شأنها، لخصها يومًا الشاعر العراقي أحمد مطر حين قال: "لا البيانات ستبني بيننا جسرًا،، ولا فتل الإدانات سيجديكم فتيلًا... نحن لا نشري صراخًا بالصواريخ،، ولا نبتاع بالسيف صليلًا".
يقول الكاتب التونسي محمد حسام الدين: "ما علمنا لإسرائيل شعرة تهتز من بيانات وتنديدات العرب بل والعالم قاطبة".
ويرى: "ربما السبب وراء طمأنينة الولايات المتحدة وحبيبتها إسرائيل هو أنّ العرب ذاتهم لم يعودوا يأبهون لشأن فلسطين، ولا لشأن القدس".
يدعم ذلك ما ورد في مقطع فيديو، تم تداوله على نطاق واسع بصفحات التواصل الاجتماعي، لمفكر إسرائيلي، أجاب على سؤال "ألا تخشون رد فعل الشارع العربي" وذلك بعد قرار الرئيس الأمريكي بإعلان مدينة القدس المحتلة عاصمةً للاحتلال ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى المدينة المقدسة، فجاء رد مباشرًا: "إسرائيل لا تخشى العرب وليست بحاجة إلى سلام مع العرب لأن العرب لا ينعمون بالسلام في أرضهم أصلًا وفاقد الشيء لا يعطيه".
وقال المحلل الإسرائيلي أيضًا: "العرب فاشلون ولو أن إسرائيل فتحت حدودها للعرب لجاؤوا إليها ليقيموا فيها وينعموا بالرخاء الاقتصادي في ربوعها".