منوعات

تكنولوجيا: نحو تربية رقميّة أخلاقيّة

 

إنّ تحوّل العالم اليوم باتّجاه التكنولوجيا المعلوماتيّة، وفّر الكثير من الجهد والوقت والتكلفة، ويسّر الكثير من الأعمال الشاقّة اليوميّة في الميادين كافّة، حتّى أصبحنا أسرى سجون التكنولوجيا الرقميّة، وبات من الصعب تجاوزها أو استبدالها بوسائل الاتّصالات والتواصل التقليديّة. 

 

نحن نستخدم، بثقة، تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات والتقنيّات الحديثة في أنشطتنا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة والمعرفيّة.. ولكن هل ثمّة أخلاقيّات رقميّة ننطلق منها في تعاملنا مع هذه التقنيّة؟ وهل ندخل عالم "السوشيال ميديا" بأخلاقيّات هذا العالم الهجينة، أم ندخله بأخلاقيّاتنا وقيمنا الإنسانيّة الاعتباريّة؟ سؤالٌ عليه أن يستوقف كلّ إنسان!

 

•عوالم "السوشيال ميديا" المتحرّرة

قد يتوهّم بعضهم أنّنا ندعو إلى تجنّب "السوشيال ميديا" بكلّ فروعها أو بعضها، أو ندعو إلى العزوف عن الدخول إليها صوناً لأنفسنا من الانجرار في كثير من متاهاتها الانحرافيّة، بل على العكس تماماً. نحن أصحاب رؤية قرآنيّة منفتحة على العالم، وأصحاب حضارة إنسانيّة بذلنا فيها الغالي والنفيس، وأصحاب قضيّة تحرّريّة حملناها على الرغم من كلّ صعوباتها، واقترنّا بها واقترنت بنا، فأصحبت المقاومة كلّ وجودنا، ولم تصل هذه العزيزة للنصر الإلهيّ إلّا لأنّها تحمل قيم القرآن الإنسانيّة، فهل نتخلّى عن هذه القيم في زواريب "السوشيال ميديا"، ونحن نعتقد أنّنا نحسن صنعاً؟!

 

تختلف عوالم "السوشيال ميديا" معنا عقائديّاً وفكريّاً، فما يُعدُّ عندهم مباحاً وعاديّاً، نجد له ضوابط في ديننا الحنيف، وكذلك ثقافة المتلقّي وعدم توفُّر الوعي الكافي للقيام بالانتقائيَّة المعلوماتيَّة لأَخْذ ما ينفع وتَرْك ما يَضرُّ، والثقافة المتدفّقة باعتبارها النتاج البشريّ المتناميّ والديناميكيّ والمتغيِّر باستمرار، ذلك كلّه يسبّب آثاراً في المجتمع الإسلاميّ بكلِّ مستوياته؛ سواء على مستوى الفرد أو الأسرة.

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (النور: 21).

 

﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108).

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).

 

•مرتكزات المحادثة عبر "السوشيال ميديا"

لا بدَّ من توضيح الآداب والأخلاق التي ينبغي أن يلتزمها المسلم حِيال الإنترنت وغيره؛ فالعالم الإلكترونيّ ليس مُجرّداً من الأخلاق والآداب التي ينبغي الالتزام بها في الحياة التقليديَّة، مضافاً إلى بعض الآداب التي فرضتها طبيعة هذا العالم الإلكترونيّ الجديد. نحن المسلمين نؤمن -بحكم عقيدتنا وأصالتنا القيميّة- بالسلوكيَّات الإنسانيَّة المهذَّبة؛ ولهذا ليس من الصعب أن نطبِّق ما نتبنَّاه من أخلاق في واقع الحياة اليوميَّة على سلوكنا في عالم الإنترنت وغيره من وسائل الاتّصالات.

 

فصفاء النيّة والقصد، والحرص على الصدق واستخدام الأدلّة، والتكلّم بعلم ناتج عن معرفة ودراية، فلا ننشر على الشبهة، من أبرز مرتكزات آداب المحادثة على "السوشيال ميديا"، خصوصاً حين يكون الهدف من المشاركة التقرّب إلى الله تعالى، فضلاً عن عدم الاعتداء على الآخرين بالكلام السيّئ، وتجنّب السخرية، ولزوم استخدام الكلام الطيّب الواضح الذي يدخل إلى القلوب، والاستماع إلى وجهة النظر الأخرى وتفهّمها؛ إذ إنّ الاستماع الجيّد وسيلة لإظهار الاحترام، وكذلك الهدوء، والثبات على الحقّ وتجنّب الأحاديث التي تسبّب لنا الذلّ والمهانة؛ ومن جميعها نستمدّ القوّة في الحوار من قوّة الدين والإيمان بالله تعالى. 

 

•اللغو الفارغ

إنّ المساحة التي أتاحتْها الشبكةُ الإلكترونيّة بمثابة الباب المفتوح، الذي يمكن للجميع أن يدلف منه، يقدِّم ما يريد، وقتما يريد. يبقى من المقلق حقّاً أنّ ما يجري في الدردشة في معظم الغُرف الإلكترونيَّة، عبارة عن لغوٍ فارغ، أو معاكسات، أو شتائم متبادلة، فضلاً عن السجالات الكلاميّة بدون خلفيّة ودراية علميّة لأوجه الموضوع المطروح وتداعياته على البيئة المجتمعيّة الداخليّة والخارجيّة، كذلك هوس الألعاب الإلكترونيّة للكبار والصغار، ذكوراً وإناثاً، ناهيك عن وجود بعض المواقع التي تحتوي على أفكار مسمومة تشكّك في العقيدة أو تغالط في التاريخ. 

 

الخطير في الموضوع، أنّ الأعمّ الأغلب يتعامل مع الإنترنت بوصفه شبكةً للاتّصال والتسلية أكثر ممّا هو وسيط للمعلومات والحوار بكلّ ما يحمله هذا من صعوبات. تستحضرني هنا مقاربة واقعنا الاقتصاديّ الذي تمكّن الاستعمار فيه، بفعل جملة عوامل داخليّة وخارجيّة، ذاتيّة وموضوعيّة، قرابةَ القرن، العمل على تنميط مجتمعاتنا لتصبح مجتمعات استهلاكيّة بالكامل، وبفعل هذا النمط يشنّ اليوم حربه الاقتصاديّة علينا، ما يحتّم علينا ألّا نغفل عمّا بجري حالياً في عوالم "السوشيال ميديا" من ضياع الأوقات في غير منفعة، والذي يعود بالضرر الحسّيّ والمعنويّ، حيث إنّ الجالس أمام تلك الشاشة يقلب بصره يميناً وشمالاً، ويبحث عمّا لا يفيده، يضيّع عليه عمره هباءً منثوراً، وعند موته يتحسّر على تلك الساعات التي فاتت من عمره في غير مرضاة الله، فيتحوّل اللغو في الحديث، الذي نهى عنه القرآن الكريم، بكلّ انعكاساته الأخلاقيّة والسلوكيّ، إلى نمط مجتمعيّ عامّ، كنتيجة من نواتج التغيُّر في أخلاقيَّات المجتمع المسلم.

 

•الحقّ والمصداقيّة

في المقابل، إنّ أهمّ ما يُميِّز غالبيّة المواقع الحقّة عن غيرها هو المصداقيّةُ، التي بها يفتضح أمرُ الآخرين ممَّن أصرُّوا على تزييف الكثير من الحقائق؛ فهي حرب بالإعلام لا تقلّ عن الحرب بالسلاح. فهذه المواقع اخترقتْ حدودَ الدول، ما يمكِّن الآخرين من الاطِّلاع على مادّتها، وباللغة التي يريدون إن كانت من المواقع التي تقدِّم خدمات متعدّدة اللغات، فهي -إذاً- فرصة عظيمة لأن تصل دعوة الحقّ إلى القطاعات كلّها، في كلّ بقعة من الأرض، دون حدود أو قيود، إذ يمكن أن يجيب أحدهم عن التساؤلات، ويردّ على الشبهات، ويوضِّح الغامض من الأمور، ويدخل في حوار مع الراغبين في المعرفة.

 

•المسؤوليّة المجتمعيّة

بفعل العولمة وتأثيرها في تنميط المجتمع العربيّ في أكثر من صعيد، لا سيّما المعرفيّ والثقافيّ، باتت الأسرة اليوم في التبادر الذهنيّ الأوّليّ، تعرّف بأنّها مجموعة من الأفراد بينهم علاقات قائمة على أساس (نحن)، وهي علاقات دائمة ومنتظمة نسبيّاً، وهذا التعريف يتوافق إلى حدٍّ ما مع تعاريف علماء الاجتماع بأنّها مجموعة من الأفراد خرجت من دائرة (الأنا) إلى دائرة الـ(نحن) على أساس نوع من العلاقات المشتركة تتقدّمها العائلة كوحدة اقتصاديّة، ما يكشف التنميط الفكريّ المتأثّر بالغرب.

 

لذا نتوجّه اليوم إلى الأسرة لتتحمّل مسؤوليّتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة، حيث تعدّ المنظومة الاجتماعيّة الأكثر أمناً في تنشئة التربية الرقميّة الأخلاقيّة، بل قد تكون البيئة الوحيدة التي توفّر الاستقرار والاطمئنان الاجتماعيّ والنفسيّ لأفرادها في تولّي هذه المهام التي تناط بها أمام التحدّيات العصريّة، وفق منظومة قيميّة معياريّة تحفظ للفرد شخصيّته الفرديّة وهويّته الجمعيّة، فتحدّ من التأثيرات السلبيّة للعوالم الافتراضيّة في مختلف ميادين العمل في المجتمع، وبالتالي ينشأ داخل أسرته على تربية رقميّة سليمة مضبوطة بمعايير وقيم إنسانيّة تحفظ الحقوق والواجبات وترعى الحريّات والاختلافات والتباينات الثقافيّة، ويقلّل الاستخدامات السلبيّة والتجاوزات المترتّبة من الاستخدامات الرقميّة في الميادين المختلفة، ما يجعله مؤهّلاً فكريّاً وأخلاقيّاً لتجاوز سلبيّاتها، فيكون هو المحور المستفيد من التكنولوجيا وليس فقط المتلقّي والمتأثّر والمستهلك. 

 

ولأنّ هذه المقالة لا تتّسع لتلحظ كلّ جوانب التربية الرقميّة الأخلاقيّة، التي غايتها الأساسيّة أن لا نترك العالم الافتراضيّ المسؤول الوحيد عن تربية أجيالنا والتأثير في تشكيل الشخصيّة الفرديّة والهويّة الجمعيّة، سنضيء على أبرز جوانب هذه التربية بإيجاز:

 

1- التربية المعرفيّة

 

الإحاطة العلميّة للأطفال والمراهقين بالكمّ الهائل من المعارف التي يصل إليها أفراد الأسرة من خلال هذه التكنولوجيا، مع الإشارة إلى احتمالات صحّة المعلومات وكذبها، وتلفيق المعلومات وغيرها، فنجنّبه حالات الانبهار بالتقدّم التقنيّ، وننمّي فيه ثقافة التحقّق من المعلومة من خلال السعي للتعامل معها بواقعيّة وموضوعيّة وتوازن.

 

2- التربية المهاريّة

 

الإقبال على تعليم المهارات التكنولوجيّة لأفراد الأسرة كلّهم، وتكون غائيّة وهادفة وفق الاحتياجات التكنولوجيّة بما يتناسب مع موقع كلّ فرد ومرحلته العمريّة، فضلاً عن العمل الآمن من الاختراقات السلبيّة وكيفيّة التعامل مع الأخيرة؛ فالتربية المهاريّة أصبحت اليوم من اللوازم الحياتيّة الاجتماعيّة. 

 

3- التربية الأخلاقيّة

 

إنّ الدخول إلى العوالم الافتراضيّة لا يعني الخروج من ذواتنا الثقافيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، بل العكس، بالقدر الذي نكون فيه متصالحين مع ذواتنا، بالقدر الذي نستفيد بإيجابيّة من هذه العوالم الافتراضيّة؛ لذا يجب التعاطي السلوكيّ مع هذه العوالم المضبوط بالقيم من جانب، وبتحديد الأهداف من الاستخدام من جانب آخر، ما يبعدنا عن الأهداف الواهية والاستغراق في تضييع الوقت سدىً، ويبقينا في دائرة المجتمع الاستهلاكيّ البحتة للمنتوجات الرقميّة غير القابل للإبداع والإنتاج. 

 

•استعادة محوريّة الأسرة

والأهمّ في توجيه مهمّة التربية الرقميّة الأخلاقيّة للأسرة، هو ضرورة استعادة محوريّة الأسرة في المجتمع، انسجاماً مع رؤيتنا القرآنيّة التي تعتبر الأسرة مرتكز خلافة الله على الأرض، من خلال العمل لإعداد أفراد قادرين على النهوض بالمجتمع باتّجاه التقدّم التقنّيّ والانتاجيّ والحضارة والتفوّق التكنولوجيّ، خلافاً للطرح الغربيّ لمحوريّة الفرد في المجتمع، فالأسرة هي محوريّة الحياة الإنسانيّة ومستوياتها العلائقيّة القائم على التبادل بينها وبين المجتمع، فهي تؤهّل أفرادها للنهوض بالمجتمع، والمجتمع بدوره يوظّف إمكاناته في خدمة بقاء واستقرار هذه المنظومة الاجتماعيّة.

 

 د. ليلى صالح مختصة في علم الاجتماع السياسيّ


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد