مقالات خاصة

 لم نَخُنكِ يا فلسطين

لم أحزن لصفقةِ القرن، ولم أقنط، بل و لم يُصبني الإكتئاب و التكدّر و الصدمة. لم أشعر بالذلِّ والمهانةِ و أنا أرى كرامتي التي ناضلتُ من أجلهاً عقوداً طويلة من حياتي واستَنزَفَتْ طاقتي و مستقبلي وهي تُدَاسُ بأرجل ِ الصهاينة و ترامب و أزلامهم. لم أُصَبْ بالقنوط حتى، و لا بالشعور بالغصّةِ والمرارةِ و المهانة، كلّ هذا لم أشعر به، ولم ينتابني ولو شَذَراً من كل ذلك. ما أصابني هو أكبرُ من كلّ هذا، و أعظمُ و أعمقُ و أبلغُ من ذلك كلّه وقد بحثتُ في كلّ معاجم اللغات، فلم أجد فيها ما يفي شعوري بهذا الكمّ من الهوَانِ حَقُّه..!!!

لذلك مَضَت أيام قبل أن أُعَبّر و أُفَرٌّغٌ مافي جعبتي من قول ٍ لم يعُد يُجدي نفعاً، ولن يستطيع أن يُفَرَّجَ كُربةَ مهزوم ٍ شريدَ الروحِ، والعقلِ، و القلب، و الانتمااااء !!
من أُحاسبُ يا فلسطين َ، من أسأل، ومن سيُجيب؟؟!!!
لم نَخُنكِ يا فلسطين!!
كُنَّا صغاراً عندما رميناً أحلامنا بلعبةٍ جميلة، أو بدلة ٍ لائقة، أو لعبةَ أطفال ٍ يلهونَ بها عن عالم ٍ لا يعنيهم، كُنَّا صغاراً عندما رمينا تلك الأحلام من أجل حلِمنا بقُدسكِ و الأقصى. لم نكن نرى أمامنا سواكِ. من كان يسألنا عن عشقنا في طفولتنا، كُنَّا نُجيبُ بلا تردّد؛ حبيبتي اسمها فلسطين. عَشِقنا غسان كنفاني بَدَل عِشِقِنا لأمُِنّا و بنتِ الجيران و أستاذ المدرسة. بيّاراتُ الليمون و البرتقال في عكّا ويافا كانت بساتينُ حُلمِنا. و كُنَّا حين نُشاهد البرتقال في موسم الشتاء نتبادل نظرات الفرح لأنَّنا كُنَّا نعتقدُ أنّهُ عكّاوي. من بيّاراتِ عكّاو حيفا ويافا، وبساتينها و حدائقها. كان محمود درويش يُوَّحدّنا على اختلافنا، أكثر مما وحدَّتنا كل الحكومات و الأنظمة العربية و أحزابها. كُنَّا نحفظُ أسماءَ فدوى طوقان، و سميح القاسم، وابراهيم طوقان، وغيرهُم كُثُر، أكثر مما نحفظ أسماء أقاربنا و خُلاّننا و أحبابنا. الساسةُ الفلسطينيين كانوا حاضرين في وجداننا و قلوبنا و عقولنا، كما كانت مزَاراتُنا حاضرة في وعينا و أذهاننا و معتقداتنا في سنين طُفولتنا الأولى. و كانت الصدامات تصل حدَّ الشجار الدموي إذا ما تَطاوَل أحد على رموزِ فلسطين، والقضيّة الفلسطينية. و كُنَّا  سعداء..!!! سُعداء بقضيّتنا، بشعاراتنا، بأحلامنا، بتضحياتنا في طفولتنا و شبابنا و كهولتنا. و كيف لا، فتُلكُمُ هي فلسطين الحبيبة. لم تكُن مفردةُ حبيبة تنفصل عن اسمك يا فلسطين. وكيف لا و أنت الحبيبة التي قدّمنّا لها الغالي و الرخيص. نعم يا فلسطين أنتِ و قُدسك ِ و أقصاك ِ كُنتُم الحبيبة التي لا يتجرأ أحد أن يُنازِعَنا في عشقنا لها.
لم نَخُنكِ يافلسطين. فعندما صَدَحَ مظفر النواب بقصيدته؛ "القدسُ عروسُ عروبتكم" باتت كلماتها نشيداً وطنياً لنا. و ضَرَبت شُهرة مُظفَّر النواب الآفاق. وباتَ اسمه وقصيدتهُ على لسان ِ كلّ عربيّ، إلاّ الُحكّام العرب الذين كفَّروه، و زندقوهُ، وسجنوه، و أوشكوا أن يقتلوه. هل تتخيلي يا فلسطين الحبيبة؟!! كيف لشاعر ٍ تضربُ سمعتهُ الآفاق بسبب بيتين من الشعر، و شاعرُ آخر يُنتج عشرات الدواوين و لا يسمع به أحد، فلماذا مُظفَّر؟؟!!!! مُظفَّر لأنه غنى لحبيبة الشعب العربي كلّه دون حكوماته و سلطاتهم و تيجانهم و قصورهم و ثرواتهم و أمجادهم الفاسدة الزائلة المُزيّفة المغموسة بدماءِ شعوبهم. فلا تقنطي يا فلسطين؛ فأنت باقيةُ و ِتيجانهم راحلة. أنتِ في القلب وهم في المزبلة. قُصورهم وتيجانهَم لخرابِ الدهرِ يبنوها، و أنتِ مدى الأجيالُ بوصلة كلٍ شريف ٍ سينحوها..!! 
لم نَخُنك ِ يا فلسطين فلا تُحاسبينا. و لا تحزني منّا، بل احزني علينا ولنا، فحالنا أسوأ من حالكِ، فنحنُ تائهونَ، ضائعونَ، مُشرَّدونَ في عقولنا و أجسادنا و قلوبنا. و كيف لا وقد أضعناك ِ، ومن بعدك ِ ضاعت الاتّجاهات، و اختفت البُوصلة..!!!!
لم نَخُنكِ يا فلسطين. ففي بيتي وضعتكِ أيقونةَ و كتبتُ فيك القصائِد. زَرَعتُك ِ غرسةَ في قلبي ودمي لتكوني الوجهةَ و القائِد. فدِماءُ الملايين التي سالت في سبيلك ِ ستُنبتُ شقائق نعمان ٍ جديدة. و هؤلاء الذين خانوك ِ، وبك ِ تاجروا، و على العروش ِ بإسمك ِ تربّعوا، و بقضَّيتك ِ الكُبرى شُعوبَهم قَهَروا، و ثروات البلاد نهبوا و استثمروا، هؤلاء يا حبيبتي فلسطين ذاهبون، راحلون، منبوذين، مذؤومين صاغِرين كما خرج إبليس من جنّةِ النعيم. لا تقنطي يا غاليتي فقد كُنتِ وما زلتِ حلمَِ ابنتي المُنتَظَر. و كنتِ ومازلت ِ للتاريخ ِ القصّةَ و الرواية والعِبَر . لاا يا فسطينَ الحبيبة، أنَخسَرُك ِ؟؟! لا. فأنتِ كُنتِ ومازلتِ القَضيّة. و من ذا الذي يعيشُ من غير قضيّة؟؟!! ذاكَ الذي يعيش من غير قضيّة كمن يعيشُ من دون هُوّيّة.
سيأتي اليوم يا فلسطين، الذي نبيعُ فيه قُصورَ الُحكّام العرب و نفديكِ. و نستردّ أموال فسادهم و نعطيكِ، نعم جميعهم يا حبيبتي، جميعهم. من ضحكوا علينا باسمك ِ من جوَّعونا باسمكِ، ومن حكمونا باسمكِ. سيأتي اليوم الذي فيه نفديكِ، و نزرعُ بيَّارات اللّيمون و أشجار الزيتون بأيد ٍ فلسطينية لا بأيد ٍ صهيونية. أتقنطينَ ؟!! و لمّا تَزَل خارطةُ أرضِكِ ِالحبيبة مُعلّقةً على جدران الشرفاء في أمّتنا الكبيرة. لا يَغُرّنّك ِ ترامب و ألاعيبه، ولا نتنياهو و أساليبه، ولا حاكِمٍ عربيّ و أكاذيبه. رَحمَكَ الله يا مُظفَّر النواب حين قال:" أولادُ القحبةِ لا أستثني منكم أحدا" و يومها عرف حقيقتهم في قوله: " لماذا أدخلتم كلّ زناة الليل إلى حُجرَتها". أتذكيرنَ يا فلسطين الحبيبة؟ هؤلاء هُم حُكّامنا العرب. و هذا ما فعلوه بكِ و بأرضك ِ. فلا تقنطي يا حبيبتي فللظلمِ جولة و للحق جولات وعلى الباغي تدورُ الدوائِر . فإن جاء بترامب الزمانُ فما رَضِيَتْ لكِ الأجيالُ المَهانُ. فصبراً على البلوى يا فلسطينَ صبراً.
وأستحضرُ لكِ قولَ الشاعر أبو البقاء الرندي في قصيدته:
هي الأمورُ كما شَاهَدَتها دُولّ
    من سرَّهُ زمنُ ساءته أزمانُ
و هذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
    ولايدومُ على حالٍ لها شانُ .. 

وإن غدٍ لناظره ِ لَقريب يا فلسطين الحبيبة..!!!

عماد يوسف
كاتب ومحلل سياسي سوري


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد