مقالات خاصة

جمال الدّين الأفغاني و محمد عبده ..."صفحات مجهولة من تاريخ قادتنا النّهضويين الإسلاميين"

 

                            《 الحلقة الأولى " 1 من 3 " 》 

                                                                                       ●  د . بهجت سليمان 

1▪ يحتاج الحديث في التّاريخ ”الأيديولوجيّ” إلى إضاءة عامّة للظرف التّاريخيّ الحاكم للمرحلة التّاريخيّة التي يجري عليها الحديث ، لا سيّما أنّ ”الدّين” بمظاهره السّياسيّة هو عنصر أساسيّ من عناصر ”الأيديولوجيا” التي يتناولها النّقد ، و ذلك من خلال التّطابقات و التّرابطات التّاريخيّة بين الأحداث المختلفة ، التي تضيف التّأكيدات على تعليلاتنا الفكريّة التّاريخيّة التي نقول بها ، فلا تبقى كلمات مرسلة على السّجيّة الاعتقاديّة ، رغم أنّه ما من سجيّة اعتقاديّة فكريّة فلسفيّة مُطَمْئِنَة و مستقرّة و فاعلة في الوعي التّاريخيّ ، ما لم تكن معلّلة تعليلاً تاريخيّاً واقعيّاً يأخذ بالوقائع التّاريخيّة من ناصيتها ، ليجعلها تنطق المسكوت عنه المغمور في مؤامرة التّناسي التّجاهل و الجهل و النّسيان .

2▪ أصبحت مصر ولاية عثمانيّة منذ عام ( 1517 )، و درج العثمانيّون على ما كان عليه حكم المماليك لمصر قبلهم ، إضافة إلى استحداث أساليب جديدة في الإخضاع و نهب الشّعب و جباية الضّرائب..
     بدأ منذ عام ( 1600 ) نفوذ المماليك بالتّصاعد من جديد في مصر ، مع ازدياد درجة الاستقلال الذّاتيّ ، سياسيّاً و اقتصاديّاً ، عن ”الباب العالي” ، و بدأ ، في أثناء ذلك ، اقتصاد الدّولة بالتّدهور .

3▪ في بدايات القرن التّاسع عشر الميلادي بعد الحملة الفرنسية علي مصر ( 1789 ) ، تأثرت مصر بتيارات السياسة الأوربية ، ولقد بدا ذلك واضحاً في أطرف العالم الإسلامي ، وظهر بجلاء تهديدها بابتلاعه.

4▪ في تلك تالأثناء أصبح يقيناً ضعف الدولة العثمانية وعجزها عن مواجهة الضغط الأوربي ، حيث سارع الغرب في ابتكار المشاريع لاقتسام أملاك ”الرّجل المريض” ..
     هنا أصبحت الولايات العثمانيّة ، ومنها مصر، معرضة لمصير الإمبراطوريّة العثمانيّة الضعيفة و المفكّكة تحت ضغط الدّاخل و الخارج في وقت واحد ، و كان العالم منقسماً في مشاريع الاستعمار الحديث بين ( بريطانيا ) و ( فرنسا ) بشكل أساسيّ .

5▪ توافقت هذه الظّروف مع ظهور رجل قويّ في هذه الفوضَى التّاريخيّة هو ( محمد علي باشا ) الذي أدرك حقيقة الوضع السّيايسيّ في مصر ، حيث كان قائداً لحاميةٍ عسكريّة ”عثمانيّة” في (مصر) ؛ فاهتبل الفرصة لحكم مصر عن طريق قتاله للمماليك أعداء العثمانيين ، و كسب ثقة ”الباب العالي” ، فأطلقت يده في مصر .

6▪ أدرك ( محمد علي باشا ) حقيقة وضع مصر السياسي ، و اطمأن إلى غنى مصر بالموارد ، وأهمية مركزها الجغرافي ، على طريق التجارة القديم ، الذي رغب في إحيائه .. 
     وهو ما حكم سياسته الخارجية ، من خلال علاقته بالدولة العثمانية ودول أوربا ؛ ومحاولاته الواعية و المدركة لأهمّيّة تجّنبُ الوقوع تحت سيطرة هذه الأخيرة.

7▪ و لئن اضطر (محمد علي باشا) إلى الامتثال لأوامر ”السلطان العثمانيّ” بنجدته على الولايات الثائرة عليه ، في ”البلاد العربيّة” و ”كريت” و ”اليونان” و غرب المتوسّط ، فإنّ ( الباشا ) قد استثمر هذا الوضع ، و هو ما أتاح له زيادة قوّته العسكرية ، والتّوسع و التّصرّف داخل ”الدولة العثمانية” ، بالحصول على ولاية البلاد العربيّة ، و (كريت) .

8▪ وجد (محمد علي باشا) الوضع مؤاتياً، فطمح إلى تقوية نفسه ، باستقلال استراتيجيّ ، داخل الدّولة العثمانية ؛ مستغلاً موارد مصر، بالسيطرة على تلك الدولة، والعمل على تقويتها ، لتتمكن من مواجهة الضغط الاستعماري الأوربي .

9▪ في الحقيقة لم يكن من شروط هذا الوضع ، كما يمكن أن يُهيَّأ للقارئ ، أن يتمّ القضاء على ”آل عثمان” ، و يتولى هو ”السلطنة” ، بل كان يمكنه أن يُبقي على ”الأسرة العثمانية الحاكمة” ويوجه سياسة الدولة وجهة، تُجدِّد شبابها. كما أن ذلك لم يناقض سعيه لنوع من الاستقلال، داخل نطاقها.

10▪ في غضون ذلك و في هذا المدّ العسكريّ لمحمد علي باشا بدرت منه محاولات تعليل قوّته بالاستقلال عن الدّولة العثمانيّة ..
     و لقد مرّ مشروعه الدّاخليّ و الخارجيّ في إعادة تحديث االدّولة ، في ما يمكن أن ينقسم إلى مرحلتين : الأولى هي الوفاق مع السّلطان العثمانيّ ؛ و الثّانية هي النّزاع مع ”السّلطان” ، و المواجهة مع ”الدّول الأوربّيّة” .

11▪ بعد عام ( 1811 ) ، و تمكّن محمد علي باشا من القضاء على ”المماليك” ، كان جاهزاً لتلبية نداء ”السّلطان” ، و نداء ”حامي الحرمين” ، بعد أن استولى ”الوهّابيّون” منذ عام ( 1807 ) على ”شعيرة الحجّ” ؛ و لقد حقّق له هذا الأمر هدفين معاً ، و هما توطيد مركزه في ( مصر ) ، و رسوخ منزلته لدى ”السّلطان العثمانيّ” ، و هو ما يساعده في تحقيق طموحاته ، مستقبلاً ، فيزيده قوّة و ثقة في الانفصال أو أقلّه في ”الاستقلال” العمليّ عن ”الدّولة العثمانيّة” ، و هو ما كانت حملته على ”الجزيرة العربيّة” تمهّد له الطّريق و تساعده على تحقيق أهدافه، سواء بالانفصال من الدولة العثمانية، أو الاستقلال بمصر خارج نطاق تلك الدولة، أو التوسع، داخل نطاقها، أو الاكتفاء بالحكم الوراثي، وتحقيق مركز متميز، في نطاقها. .
     يضاف إلى ذلك ، أن بسط سلطانه على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، كان عاملاً مساعداً على تحقيق هدفه في إحياء طريق الشرق القديم، المار بمصر، فوق مياه ”البحر الأحمر” .

12▪ و إذا كان لا بدّ لكلّ مشروع سياسيّ اقتصاديّ واقعيّ من حامل فكريّ و أيديولوجيّ ، فلقد مثّل (رفاعة الطّهطاوي) [ رفاعة رافع الطّهطاوي ] ( 1801 - 1873 ) [من مدينة (طهطا) ، من محافظة (سوهاج) في صعيد (مصر) ، و الذي ينتهي نسبه إلى ( الحسين بن عليّ بن أبي طالب) ”السّبط” ] ، أوّل قائد للنّهضة العلميّة المعرفيّة في (مصر) و العالم العربيّ ، و الدّعامة المعرفيّة و الثّقافيّة لمشروع (محمد علي باشا) الحضاريّ ..
     حيث كان (الباشا) قد أعدّه إعداداً ثقافيّاً و معرفيّاً حضاريّاً ، ليشكّل له الرّافعة الثّقافيّة الحضاريّة في مشروعه السّياسيّ ، فأعدّه علمياً في (فرنسا) منذ عام ( 1826 ) ، بعد تخرّجه من ”الأزهر” ، فأتقن في (فرنسا) العلوم السّياسيّة و فنون التّرجمة ، و عاد إلى (مصر) كأوّل رمز من رموز ”النهّضة العربيّة” و أوّل فاتح لعصر ”التّنوير” العربيّ ..
حتّى أنّه لُقِّبَ برائد التّنوير العربيّ في العصر الحديث لما أحدثه من أثر في تطوّر التّاريخ المصريّ و العربيّ الحديث ..
    و على رغم أنّ ( الطّهطاوي ) قد جمع إلى موسوعيّته العلميّة ، تعمّقه في علوم ”الدّين” ، حتّى أنّه اختير إماماً مشرفاً في ”الأزهر” ، فإنّ التّاريخ العربيّ لم يجرؤ علي إنصافه ، بل و لا يريد إنصافه غامطاً له حقّ الرّيادة و شَرَفَ الفتح و الاكتشاف . ‬‎

13▪ في هذه الفترة الحداثيّة المفارقة في تاريخ (مصر) و (المشرق العربيّ) ، و التي واكبت ( الحداثة) في ”الغرب” ، خطوةً فخطوةٍ ، ظهر (جمال الدّين الأفغانّي) ( 1838 - 1897 ) ، كشخصيّة داعية إسلاميّ ”مجدّداً”(!) في ”الدّين” ، وافداً إلى ”العروبة” و ”الدّين” ، مع ما اكتنف نشأته و تطوّره و قدومه إلى (مصر) من ألغاز و علامات استفهام ، ما زالت صالحة حّتى يومنا هذا ، تحتاج إلى تفيسير و شرح زائد و تعليل . و أمّا أن يقول ”شُرَّاحُه” المريدون : 
     [  إنّه المدعوّ ( محمد جمال الدّين بن السّيّد صفتر الحسيني الأفغانيّ الأسد آبادي ، المولود لأسرة ” أفغانيّة ” ( و ”عريقة” ! ) ، و ينتهي نسبها إلى ( الحسين بن عليّ ) ( رضي الله عنه )(!) ، و نشأ في ( كابول ) عاصمة ”الأفغان”، و تعلّم في بداية تلقّيه العلم الّلغتين العربيّة و الفارسيّة ..، إلى آخر ه) ” ..
     فهذا تعليم يدعو للتساؤل بلغة االسّامعين ، إذ كيف يكون ”الأفغانيّ” مولود ”لأسرة أفغانّية عريقة ،(و)ينتهي ”نسبها” [ أي نسب الأسرة !؟ ] إلى ( الحسين بن علّي ) .. ؟! أم أنّ ( الحسين ) ”السّبط” كان أفغانيّاً متخفيّاً بشرف العروبة ؟؟!!
     إنّ هذا يدعو للتساؤل ، بل للإستغراب !
      و سوف نلقي نظرة موسّعة نسبيّاً على شخصيّة ”الأفغانيّ” و ”نشأته” و ”تاريخه” ، لكي نصل إلى ما نريد من ذلك .
     فمن هو ( جمال الدّين الأفغانّي ) و لماذا جاء إلى ( مصر ) ؛ و من هو ( محمد عبده ) ( 1849 – 1905م ) ؟

                                                                           ● غدا ( الحلقة الثانية " 2 من 3 " )


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد